بقلم غلاء أنس
يذكر د. ياسر سليمان المعالي على لسان عبد العلي الودغيري رأياً لافتاً في المفاضلة بين اللغات، فيقول بأننا لا يمكننا صرف النظر عن احتلال بعض اللغات قيمة ومكانة أفضل من غيرها، وأن مفهوم المساواة بينها غير دقيق ولا يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الثقافية المنوطة بها:
"فكيف تساوي بين لغة تجرُّ وراءها تاريخاً طويلاً من الممارسات العلمية والفكرية والتقنية، وتتوفر على مكتبة ضخمة وتجربة طويلة وخبرة قرون عديدة في التأليف والكتابة والإبداع في كل المجالات، وأخرى ما تزال في عتبتها الأولى من ولوج عصر الكتابة؟"
ثم يورد المعالي استشهاد الودغيري بجان كالفي، اللساني الفرنسي الدار للعربية، والذي يقول في كتابة الإيكولوجيا اللغوية: "فإن الحقيقة هي أن اللغات في الأساس ليست متساوية .. ليست كل الألسنة متساوية القيمة .. والقبول بعكس هذا إنما هو نوع من العمى أو الديماغوجية التي تعطي نفس القيمة والأهمية لكل من البعوضة والفيل، للإنسان والفراشة .. وسيكون إذن من باب اللاواقعية أن نقول إن كل اللغات الموجودة في العالم، لها وزن واحد وقيمة واحدة في سوق اللغات، ولها نفس الاستعمالات ومستقبلها واحد"
غير أنني أسائِل هذا الرأي من زاوية أجدها جديرة، تحدث عنها كاسيرر في كتابه "مقال في الإنسان"، ففي بحثه في الإنسان وظواهره ونتاجه، تناول اللغة التي ابتدعها الإنسان لتعبر عنه في كل مكان، وتكون وسيلة لإثبات وجوده خارج نفسه، وتناول مسألة المفاضلة بين اللغات قائلاً بأنه شأن غريب وغير حقيق بنا أن نؤمن به، ذاك أن قيمة اللغة مستمدة من قدرتها على التعبير عن الإنسان، سواءً كان أقلية في مجتمعه أم أكثرية، سواء كتب بها ودوَّن العلوم أو قصرها على الحكايات الشعبية والأغاني والتراث الشفهي:
"لا تكون الأهمية البارزة "لشغل" اللغة وإنما تكون "لطاقتها". ولقياس هذه الطاقة يجب على المرء أن يدرس العملية اللغوية نفسها بدلاً من أن يحلل نتاجها وثمرتها ونتائجها النهائية"
ومن هنا فإنه يدعو إلى التخلص من الأيديولوجيا اللغوية عند النظر في اللغات وتعددها، والاستناد إلى الحكم العقلي "الفاتر" والبعيد عن منظور التفوق اللغوي بذرائع الإنتاج العلمي والفني:
"ويحذرنا اللغويون المحدثون من هذه الأحكام، ويقولون لنا إنه ليس لدينا مقياس مشترك واحد لنقدِّر به قيمة النماذج اللغوية، فإذا قارنا النماذج تبدَّى لنا أن أحدها يمتاز على الثاني بفوائد مُحددة، ولكن التحليل الدقيق يقنعنا – عادة – بأن ما نسميه نقائص في بعض النماذج يعوِّضه ويوازيه فضائل وحسنات أخرى فيه. ويقول سابير إن شئنا أن ندرس اللغة فعلينا أن نزيل عن عقولنا خدعة القيم الأثيرة ونعود أنفسنا النظر إلى اللغة الإنجليزية والهوتنتوتية بنفس القدر من الحياد الفاتر الراغب في آن".
أرى أن الرأيين منطلقين من معيارين مختلفين للتقييم، فالأول مستند إلى نتاج اللغة والاشتغال فيها والإنتاج عبرها، والثاني منشغل بالقدرة التعبيرية الكافية، والتي تمتاز بها في التعبير عن الإنسان أينما كان، والحقيقة أن الرأي الأخير حقيق بالدراسة والنظر ويجدر أن ينال اهتمامنا مقارنة بالأول، لأسباب عديدة أجد أهمها: من الضروري أن نتوجه في دراساتنا إلى ما يوحدنا ويجمعنا لا إلى ما يزرع في اختلافنا فوقية غير مبررة ولا يمكن أن تفضي إلى مظاهر ثقافية واجتماعية حميدة، كما أرى أن الوظيفة التعبيرية للغة مُهمة بقدر الوظيفة الإنتاجية لها، ولا يمكننا عدها مراحل متتابعة، بل وظائف متساوية القدر والأهمية.
علينا ألا ننسى، في الدرس اللغوي، أننا نتجه إلى الإنسان في النهاية، لا بعيداً عنه.
إرسال تعليق