عمان - عمر أبو الهيجاء
منذ دواوينه الأولى يلاحظ المتتبع لتجربة الشاعر محمد عبدالله البريكي مدير بيت الشعر في الشارقة أنه مسكون بالبحر وجدله وكذلك الصحراء والامكنة التي تركت اثر كبيرا داخله، شاعر يمعن في الأشياء لنجده يمتلك ذاكرة مرتعشة، هذه الذاكرة تفيص صورا مدهشة لتشكل حيوات كثيرة عايشها ضمن إيقاع يتماشى مع روحه وعجلة الحياة ورمزية ودفقات شعرية منشئًا علاقات ومفارقات وانزياح في بنية القصيدة الحديثة في شكليها العمودي والتفعيلي.
لنقرأ الإهداء في ديوانه الأحدث و قيد الدراسة هذه "موج طائش في الرمل" الصادر حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر، يقع في زهاء الديوان 140 صفحة من القطع المتوسط وتضم تسعاً وعشرين قصيدة كتبت على الشكلين العمودي والتفعيلي، متخذين بوابة ونافذة للعبور إلى مناخات قصائد هذا المنجز الشعري.. يقول في الإهداء المكثف الذي يمتاز بحوار مع الذات والآخر صورة مرسومة فوق الرمل لا تخلو من المفارقة العجيبة:
(حروفٌ تطيشُ على الرمل
لا تضعوا فوقها الأحذيةْ
لملموها بأهدابكم
واتركوها بسلّة إحساسكم
إنها أغنيةْ).
في قصيدته "فتى طائشًا في الطريق" ثمة سرد شعري حالم ضمن رؤى فلسفية، يبوح الشاعر بما يختلج في ثناياه راسمًا بانوراما شعرية تأملية إنسانية وصفية لحياة يومية موجعة تعتمل مسارات الحياة بتفاصيلها وما هو شائك في الطرقات وما يتأتى من ذلك مؤثثًا طريقه بالحلم والأمل سعة الصبر في منعطفات الأيام .
يقول الشاعر فيها:
(في الطريق إلى البيت
كان الطريق فتى طائشًا
لا يرى عند ضوء الإشارة سيارةً تتجاوزه
بل يرى أنَّ أخضرها ملكُهُ
كان يعتب دومًا على العابرين خطوط المشاة
يرى أن حق العبور له
فهو مرتبكٌ من تأخره
هو أول من يفتح الباب
أول من يبدأ اليوم
يضبط أعصابه في زجاجة
صبرٍ تعَّوّد أن يستريح على صدره
حلمه كالشهادات فوق الرفوف).
ومن القصيدة التي تحمل اسم الديوان "موج طائشٌ في الرمل" في هذا النص الشعري يبحر البريكي في فضاءات العشق يخط لنا شعرا يطهر القلب بقدسية تذوب فيه الذات الشاعرة فتنداح الجمل الشعرية مؤثثة الأرواح و تراب الشاعر بوهج الحروف وخضرة العشق وعبق هال القصيدة والحلم المنشود.
(لا علم لي بالأرض، عن دورانها
وعن استدارتها وعن طيرانها
لا علم لي إلاّ بأنكِ طائرٌ
غنّى لفرحتنا على أغصانها
فتنقلي فوق السنين بخفةٍ
كالقوس حين يمرُّ فوق كمانها
أو كالفراشة حين تحضن زهرةً
راقصت عطورُ الشوق في بستانها
يا أنتِ تختصرين قصة عاشقٍ
أدّى صلاة العشق قبل أذانها
وأذاب في البنِّ المعتق ذاته
فتوزعت رشفا على فنجانها).
إلى أن يرسو إلى حزن الأندلس وتراب بغداد التي أذابها الحزن لما يحدث للشام، فيقول لسان قلبه مشتبكا مع العروبة التي تلقي بظلالها عليه باثا أسئلته المبللة بالدمع للموج الطائش على الرمل المحروقة:
(من حزن أندلسٍ على غرناطةٍ/ فالدمع مستلقٍ على أجفانها/من وجه دجلة وهو يستسقي ثرى/بغداد وهي تموت في أحزانها/ مما جرى للشام وهي بمجدها/لتراه مصلوبا على جدرانها/ من أي موجٍ طائشٍ في البحر/ يأتي للرمال يذوب في شطآنها).
ونرى الشاعر يأخذه الهيام وشغف القلب إلى محراب القصيدة التي تأتي دونما استئذان لتتشكل في المخيلة وترسم إيقاع الحب ومعنى الحب لغة مشغولة بدفق شعوري أكثر دفئا وحرارة تلسع القلب بارتعاشها لتهتز الأنثى الشعر من أغصانه فاتحة بوابة الروح المشتعلة لتكون القصيدة وحدها تشق دربها.
من قصيدة "أبناء السماء" التي تظهر فيها فلسفة الشعر وصياغة اللغة وجمالياتها وتشكلاتها الروحانية تصوير بديع، فيها يقول:
(تتشكل الأيام من جبروتها/وبدفئها تلد الممالك سيّدا/ ولعينيها/ تهب السماء سحابة/ وبخدها الثلجي يبتسم الندى/أنثى تهزُّ الشعر/ يسقط دهشة/ تهدي الوجود محبة وتجددا/في الحب/ تأتيك القصيدة وحدها/ وتسير أنت إلى السعادة مفردا/ بقصيدةٍ في الحب/يمكن أن ترى/ حقلا من الأشواك يصبح أجردا).
محمد البريكي شاعر تشتبك رؤاه ضمن صور فنية أكثر جمالية احترافية عاملا على الاقتصاد اللغوي وتوحيش الصورة المستقاة من بيئته لنجد عجينة القصائد مشبعة بماء من إحساس صادق تجاه الموجودات وغربة الحياة وترحال الشاعر في مدن كثيرة ألقت بظلالها عليه وعلى قصيدته المتفردة بالأمكنة، يتذكر النيل ويسير متوجا بالأحاسيس ومن أنفاس ونبض "فكتوريا" وتأخذه شغاف قلبه وحبه إلى مصر ومن موريتانيا إلى الشام ثم إلى نخلة وإلى البحر الذي يسكنه الذي يرمي بخيراته في أقاصي اليمن.
ويطوّف بنا الشاعر على بساط ديوانه "موج طائش في الرمل" ليحط بالقارئ في شمال الأردن في إربد ليصلى في بيت عرار- مصطفى وهبي التل شاعر الأرض مخاطبا سادن البيت عرار بخطاب شعري متماسك البناء فتنثال أفكاره وصوره وأحاسيسه مشكلا حوارا دراميا على جسد القصيدة ودلالات ومعان لها بعدها المعرفي والثقافي، جامعا شتاته وسنوات العمر حين تخونه، فكانت "صلاة في بيت عرار" قصيدة متفجرة فتحت نوافذ قلب الشاعر ليبث توجعات الروح بين يدي الشاعر "عرار" فكان خطاب شعري تراجيدي يفضي مسحة إنسانية صوفيّ المعنى وأسئلة تصب في فضاء الإنساني الأكثر رحابة، إنه شاعر أكثر تمسكا بعروبته.
من قصيدة "صلاة في بيت عرار" خطاب شعري يقول فيه:
(يا سيّد البيت الذي ما جئته
إلاّ لأجمع في فضاه شتاتي
سنوات عمري كالحسان أخونها
ولأجلهنَّ تخونني سنواتي
لكنني بعروبتي متمسكٌ
عينتها وطنا على أبياتي".
إلى أن يقول في قصيدته مخاطبا عرار والرمل يتعلق به وراسما صورة لعشق مدينة إربد عروس الشمال الأردني:
(يا "مصطفى وهبي" ستعلم أنني
متعلقٌ بالرمل في فلواتي
لم أتخذ سكنًا بناطح غيمةً
سكني قلوب أحبتي وصفاتي
ها جئت "إربد" واحتضنت فضاءها
ونصبت في أرجائها خيماتي
"إربدك" يا ابن الأكرمين كريمة
كرم المشاعر في ربا كلماتي).
والشاعر محمد عبدالله البريكي يعمل مديرا لبيت الشعر بالشارقة، ومديرا لمهرجان الشارقة للشعر العربي، ومدير تحرير مجلة "القوافي" التي تصدر عن بيت الشعر بالشارقة، قدم برامج تلفزيونية منها: "ديوان العرب" لتلفزيون الشارقة، أشرف على ملاحق ومجلات شعرية، كما أسهم في مجال التحكيم في المسابقات الشعرية.
صدر له "نبطي": ديوان "زايد"، "همس الخلود"، "سكون العاصفة"، "ساحة رقص" وفي الشعر الفصيح له: "بيت آيل للسقوط"، " بدأت مع البحر"، "عكاز الريح"، "الليل سيترك باب المقهى"، "مدن في مرايا الغمام"، "متأهبًا للعزف"، و "موجٌ طائشٌ في الرمل". كما صدر له: كتاب "على الطاولة" قراءات في الساحة الشعرية الشعبية، "غواية الحب الأبدي" كتاب الشارقة، كتاب بيوت الشعر مشاهد وإضاءات ، مجموعة من الكتب الخاصة بمهرجان الشارقة للشعر العربي
شارك في العديد من المهرجات الشعرية. كتبت عن شعره مجموعة من الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه. كتب عنه: كتاب "مقتنيات الذاكرة وتأثيث النص" للدكتور جاسم محمد جاسم، "التفكير الجمالي في الشعر المعاصر "ديوان عكاز الريح".. للشاعر محمد البريكي نموذجاً" للدكتور محمد زيدان ، كتاب "غوايات الدفء الشعري.. مقاربات في شعر محمد عبدالله البريكي" للدكتور جاسم خلف إلياس.
إرسال تعليق