الكاتبة كوثر حسن جعفر /قاصه وروائيه من سوريا
هناك في ذاك الحي البعيد، حيٌّ كل سكانه يعرف بعضه بعضاً، الفقرُ قاسم مشترك بينهم، الإنجاب هي الرفاهية الوحيدة التي يتمتعون بها أناس ينقصهم كل شيء.
في ذاك الحي العشوائي البعيد في مدينة حلب يعيش عبد الرزاق مع عائلته المكونة منه وزوجته وأولاده السبعة، أكبرهم في الثامنة عشر من العمر وأصغرهم في الخامسة من عمره.
كانت زوجته تعينه مادياً في تنظيف البيوت، بينما هو يجول شوارع حلب يدفعُ عربته المحملة بالخضار الورقية من بقدونس ونعناع وخس، ويا للأسف أصيبت الزوجة (أم عبد الغني) بمرض عضال أقعدها في الفراش، ما زاد الحمل على عبد الرزاق، كانت تسوء حالها يوماً بعد آخر والعلاج مكلف جداً، حيثُ تغسل الكلى ثلاث مرات أسبوعياً في المشفى الحكومي، فعملية زرع الكلى باهظة جداً وباتت أيامها معدودة ما جعلها ملتصقة بعائلتها أكثر.
في إحدى السهرات العائلية راحت تخبرهم وهي تنظف أحد بيوت أغنياء حلب، عندما دعت صاحبة البيت صديقاتها وطبخت ما لذ وطاب من الطعام (محاشي وكبب)، لكن الطبق الوحيد الذي لم تستطع تذوق البعض منه، كان اللحم بالكرز كان الكرز كالياقوت الأحمر واللحم كثير جداً، مرصوص بين الكرز على شكل كرات والصنوبر يزينه.
قالت:
كل هذا مصفوف على قطع خبز مقطعة بشكل جميل سال لعابي وأنا أنظر إليه ونحنُ لم نطبخ منه في حياتنا، لا في بيت أهلي ولا هنا في البيت.
(نظرت بخجل إلى عبد الرزاق):
سامحني لم أقصد شيئاً، أت لم تقصر معنا بشيء، هي خارج استطاعتك، ليحفظك الله لنا،
سألها أحد ألادها، مقاطعاً حديثها:
هل كان طعمها لذيذاً يا أمي؟
في الحقيقة لم أتذوقه فقد قضى عليه الضيوف، لكن عند غسل الصحون لعقتُ بطرف إصبعي بقايا كانت عالقة في الصحن.
-أمي.
-ههه.
-وكيف كان طعمها؟
-كانت طعم غريب، مزيج بين الحلو والحامض، طعم اللحم ظاهر جداً.
-ضحك الجميع:
تتحدثين وكأنك تذوقت صحناً، كل هذا يا أم عبد الغني كان بطرف إصبعك!؟
-كيف يمكن لهذه النكهات المختلفة بين الفاكهة واللحم أن تكون طبقاً لذيذاً؟
-إنها حلب يا بني ترى فيها العجب، هيا إلى النوم لقد تغبت، نتحدث غداً.
نام الجميع إلا عبد الرزاق، أرّقه النوم أو ربما أرّقه اللحم بالكرز، ظلَّ يتقلب في فراشه، كيف سيستطيع أن يحقق أمنية زوجته المريضة ويطعمها اللحم بالكرز، وبقي طوال الليل يحسب، العائلة كبيرة سيحتاج اثنين كيلو من اللحم:
يعني مئة وخمسين ألف ليرة، وأحتاج إلى ثلاثة كيلو من الكرز، يعني عشرين ألف ليرة، والمكسرات سأجلب القليل جداً لأني أريدها أن تأكل طبقاً مشابهاً لذاك الطبق، لنقلْ خمسين ألف للمكسرات، من أين سأحصل على ثلاثمائة ألف؟ لم أجني هكذا مبلغ في حياتي، حسناً سأجلب واحد كيلو، يا إلهي الكمية قليلة جداً، لن تكفينا كنت أود لو تكون كرات اللحم كبيرة.
بقي هكذا حتى حل الصباح، ذهب الى عمله مهموماً حزيناً يحلم بسعادة زوجته وهي تأكل اللحم بالكرز، اتصل بصديق له يبيع الفواكه على عربته، وطلب منه أن يعطيه ثلاثة كيلو كرز:
سأسدد ثمنها على دفعات.
-لا بأس.
اتصل بشقيقه ليستدين منه ثمن اللحم لكنه اعتذر بسبب ضيق اليد، من ثم اتصل بوالدته كي تساعده في ذلك، انهالت عليه بالشتائم:
تستدين كي تأكل ست الحسن لحمة بكرز، كانت في بيت والدها الزبال تأكل اللحم بالكرز، قال "بدو يتدين ليتزين".
أنهى الاتصال والألم يعتصره، اتصل بابنته:
اخرجي إحدى جرتيّ الغاز دون أن تخبر والدتك.
أخذ أنبوبة الغاز، وقف ينادي عليها، أهمل بيع الخضرة وظل يدلل عليها حتى باعها، أحضر بثمنها كيلو من اللحم والقليل القليل من المكسرات، ثم اتصل بأخته وروى لها القصة كاملةً:
اذهبي إلى منزلي ريثما آتي ببقية متطلبات الطبخة.
مرَّ ليأخذ الكرز من صديقه، وفي الطريق خطر له أن يأخذ بعض البطاطا كي يدعموا وجبة الغداء بطبق بطاطا مقلية، توقف عند بائع الخضار، وضع الأكياس على الأرض ريثما يضع البطاطا في الكيس.
شرد في صناديق الفاكهة وأطايب الخضار والفاكهة، شرد بسعادة زوجته، فجأة صرخ الرجال من حوله:
القطة أخذت كيس اللحم.
رمى الكيس وجرى خلف القطة هو والرجال كي يستعيدوا منها الكيس، للأسف لم يستطيعوا فقد ركضت مسرعة، على طول الطريق كان يسقط شيءٌ من اللحم على الأرض، وتدهسه أقدام المارة والسيارات، هربت القطة بالقليل الذي تبقى في الكيس وهربت بعيداً.
في تلك الأثناء توقف عبد الرزاق عن الركض وجلس على الرصيف منهكاً مسحوقاً، يبكي على صوت ضحكات الناس على موقف القطة التي خطفت كيس اللحم:
لا بأس، بعوضك الله، أطعمت قطة جائعة، ليجعلها الله بميزان حسناتك .......
إرسال تعليق