الكاتبة م. أميمة عنانبة
غَمامٌ أسودٌ يُظلّلُ المَكان.. مُحَمَّلٌ بالغَيثِ لا شَكّ، والهَواء قُطبيٌّ قارِس، وحافِلتي تَسير.. منَ النّافذةِ أَتأمّلُ أشجارَ الطّريق؛ مِنها العاريةُ ومنها اليانِعة، فسُبحانَ مَن تفرّدَ بالعِزّةِ.
الأرصفةُ مُكتظّةٌ؛ كُلٌّ يُغنّي على لَيْلاهُ ولَيلايَ صَمّاءُ بَكماءُ عَمياءُ لا تَفقهُ ولا تَعقِلُ مُناداتي!!
فأحدُهم يقفُ واضعًا أمتعتَهُ على الأرضِ ويُتمتِمُ؛ ربّما يُناجي اللّهَ ويَدعوهُ أن يُسيِّرَ لهُ مَركبةً تُوصِلهُ البَيت.. رُبّما يُسبّح.. رُبّما يَتَذمّر.. رُبّما تتراقصُ شَفَتاهُ على أَلحانِ البَرد.. رُبّما يتوَعَّدُ لِزوجتهِ إن لَم تَكُن أَعَدّت لهُ الطّعامَ بعدَ يومِهِ الشّاقّ.. رُبّما يُغنّي.. والأخطرُ والأوجعُ أنّهُ رُبّما يَدعو على أحدٍ قَد كَسرَ قَلبَهُ ذاتَ عِشق، وحَنينُ الشّتاءِ قَد أَيقظَ جُرحَهُ وفَجَّرَ ينابيعَ أَوردتِهِ أَلَمًا.. فَتَشخَصُ عَينايَ للسّماءِ مُجَدَّدًا وَأَراها احتَجَبَت واسوَدَّت أكثر، فَأُقسِمُ أَنّها لهُ ستَنتصِر..!!
وهُناكَ مَن يُحاولُ قَطْعَ الشّارعِ وقلبُه بِداخلهِ أَجزِمُ أُنّهُ يَرتجِف، كُلّما تَقدَّمَ خُطوةً، عادَ للخلفِ بَدلًا مِنها خُطوتَين!!
وهناكَ مَن يبيعُ الفُستُقَ ويُنادي بِصوتٍ شَجِيٍّ على عَرَبتِهِ؛ رائحتُهُ الشّهيةُ أَخالُها تخترقُ النّافذةَ وتُراودُني عن نَفسي للنّزولِ وشِرائِه!!
وهناكَ مَن يَستَرزقُ مِن جَمعِ الرُّكاب لِلحافِلات.. وأحدُهم يُنادي لِلحَلوى!!
وعاشِقانِ يتشاجرانِ على اسم المَولودِ الأوّلِ لهُما حينَ يتزوّجا.. - يا رعاكُما الله-، تزوّجا أولًّا ثمّ تَشاجَرا، أم قد ضَمِنتُمُ الدَّهر؟!! احذَرا، فَلا أَمانَ لَهُ!!
وهُناكَ مَن يركضُ مُسرعًا نحوَ الصيدليّة.. ومَن يتدلّى في حاوياتِ القُمامَةِ يبحثُ عن شيءٍ رُبّما يكونُ ذا قيمةٍ إِن باعَهُ!! وكُلُّ خَوفي أن يكونَ باحثًا فيها عن طَعام؛ فَفي وطني باتَ الطّعامُ مُكدّسًا في القُمامات!!
وهناكَ عجوزٌ بِثيابٍ رَثّةٍ رَقيقةٍ لا أَدري كيفَ تَحتملُ البَردَ؛ تَتَوسّلُ المارَّةَ لِشراءِ ما بينَ يَدَيها مِنَ الحَشائِش والأَعشاب!!
وهناكَ شابٌّ بعُمرِ الزّهور؛ كالرّيحِ المُرسَلَةِ على دَرّاجتِه يُسابِقُ الوقتَ لِيوصِلَ الوَجبات للزّبونِ الصّائم قبلَ أن يُرفعَ الأَذان، عَساهُ يَحظى بِدَعوةٍ منهُ تَجبُرُ خاطِرَهُ، وتَجمعُ شَملَهُ بِمَحبوبَتِهِ التي تَرتقِب!!
ويَتيمٌ مقهورٌ عَبرَتُهُ تُذيبُ القَلب!!..
وعُصفورانِ يَتشاكسانِ على فُتاتِ الخُبزِ وبِضعٍ من حَبّاتِ الشّيبسِ كانَت قد سقطَت مِن أَحدِهم..
وهناكَ من يَجُرُّ حقائبَ سَفرِه، لكن لا أعتقدُ أنّهُ يُجرّها بِحَقّ، أرى أنّها هيَ من تَجرّهُ بِدَمعِ الغُربةِ وتُكبّلُهُ بِقَيدِ الفِراق!!
وعلى الإشاراتِ الحَمراءِ، هُناكَ مَن يصيحُ "مِنديلٌ مِنديل"؛ وهل يُضمّدُ مِنديلُكَ الجِراحَ يا عَزيزي ويمسَحُ النُّدَب؟؟!!!
..وهناكَ من يَتسوّلُ النُّقود.. ومَن يقطفُ ورقَ الغارِ ويَمضي هاربًا خَشيةَ أن يُمسِكَ بهِ الجَار!!
وهُناكَ طاعِنٌ في السنّ أراهُ يفترشُ الرّصيفَ ويلتحِفُ الشّفقَ الورديّ النازِف مِن بينِ الغَيم، يَستعدُّ لِيَبيتَ ليلَتَهُ في مَكانِه؛ تَشيخُ الحياةُ في عَينَيهِ ويُصلّي الغائبَ على ذاكرتهِ الرّاحِلة مع المَاضين!!
وأمّا الذي ينقُلُ ويَبُثُّ لكُم هذهِ الصّوَر من خَلفِ زُجاجِ النّافذةِ، فَشارِدٌ يَنزِفُ ذِكرَيات، والشّوقُ يعبَثُ في نَبضِهِ، ويُقَطّعُ الهَجْرُ أَنفاسَهُ!!
وسائقُ الحافلةِ الثّرثار ما زالَ يَنهشُ رأسَ الرُّكّابِ بِكلامهِ المُتَواصل...!!
وأخيرًا.. انهَمرَ المَطر..
بردًا وسَلامًا على المَكلومينَ المُنكسِرةِ قُلوبُهم، ولَهبًا وسِجّيلًا على العِجافِ الّذينَ مَرّوا وزَرعوا وَجًعًا لا يَبْرأ!!
#أوجاعُ_أرصِفَة🍁🍂
#أُميمة_عَنانبة❄️🎀
إرسال تعليق