الأخرس/ قصة قصيرة

 


 الاديبة فريزة محمد سلمان

الوقت ظهراً، وحرارة آب تذيب إسفلت الطريق، ونحن من الشقاوة بأننا لا نحس بها وهي تلسع أقدامنا شبه الحافية، حيث كانت أصواتنا وضحكاتنا تغطي على الفقر المدقع الذي يبدو جلياً في أثمالٍ بالية يظهر منها أكثر مايستر من أجسادنا الغضة.

صفرةٌ مدويةٌ، جاءت من محمد : الأخرس جاء يا أولاد؟

إنه أسعد الأخرس ابن الضيعة المجاورة لضيعتنا، يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً تقريباً، هذا ما يوحي به وجهه، رغم الندوب الكثيرة التي تعتليه، وبرغم خرسه، وكونه مسالماً، وبرغم مظهره البائس في ملبسه الذي يشبهنا كثيرا، فقد أوقعه القدر في ورطةٍ كبيرة.

لم نكد نسمع صافرة محمد، حتى علا الهرج والمرج بيننا، وكأننا كنّا في انتظاره، الحجارة تتطاير صوبه من كل حدبٍ وصوب، وهو بجهد ومشقةٍ يحاول تفاديها بيديه العاريتين.

 خرج من الطريق هارباً، تلاحقه رشقات الحجارة، التي شجّت رأسه، والشوك الذي أدمى ساقيه، وكأن حروق الإسفلت ما كفته ألماً،حتى انقضضنا عليه كعصفور في قفص.

لم يملك إلا البكاء وتهديدنا بكلمات كانت تخرج من فمه، كأنها لغةٌ أجنبيةٌ لم نفهم منها شيئاً، بل على العكس، كنا تحاول تقليده والضحكات تجلجل منا.

خلصت المعركة بهروب الأخرس وتفرقنا تعبين.

رجعتُ إلى بيتنا معفّرةً بالتراب والعرق، استقبلتني أمي بالتأنيب والتوبيخ، وساقتني إلى الحمّام سوقًا، قبل أن تسخن لنا " المجدرة" مع المخلل على الغداء.

 لم أكد أبتلع أول لقمة حتى ظهر أسعد الأخرس، في بيتنا، مهشم الرأس والدماء تسيل من رأسه وساقيه.

 ولوّلت أمي:  " أسعد من فعل بك هذا ؟". 

برطم بكلمات غير مفهومة وهو ينشج.

قامت أمي  بتنظيف جرحه وتضميده بقطعة قماش نظيفةٍ وغسلت له وجهه، ودعته إلى الغداء!!. 

نشف الدم في عروقي لأمرين اثنين، كيف سآكل مع الأخرس بنفس الطبق؟ وهل سيخبر أمي أنني كنت مع الأولاد الذين ضربوه؟

احتججتُ على الأولى، وحاولت النهوض عن الطعام، فنهرتني أمي وقالت: "كلنا أولاد آدم ولست أفضل منه، ووجوده معنا بركة وحسنة سنلقاها عند رب العالمين".

 والثانية فوجئت به، ينظر لي وكأنه يقول لي "اطمئني لن أفشي السر".



Post a Comment

أحدث أقدم