ثأر

 


ميسون محمد العبادي/ اليمن


صباحٌ قانٍ مختلطٍ برائحةٍ معدنيةٍ، شمسٌ حزينةٌ تضيء الطرقات كاشفةً عن جثثٍ ملقاةٍ هنا وهناك على أرضٍ رمادية..

نائمٌ جسدي على كفِّ عفريتٍ، أفكاري متأججة تدور حول تفاصيل الأيام السابقة، استقمتُ وأنا أرى والديّ وإخوتي الذين يصغرونني سنًا وهم يأخذون غفوة صغيرة، كانوا يلتحفون بلحافٍ أبيض اللون مبقعٍ بمادةٍ حمراء تشبه الدماء، تحسست يد والدتي فوجدتها كـ قطعة الثلج، جميعهم كانت أجسادهم باردةً بطريقةٍ مريبة، فنظرت حولي أبحث لهم عن لحافٍ أثقل لعل الدفء يحاوطهم.


بين ضوضاء الانفجارات وزحمة صراخ البشر حيث لا أشعر بجسدِ أيٍ منهم رغم ارتطامي بهذا وذاك، رأيت لحافًا أبيضًا آخرًا، فأخذته متجهًا به إلى أبي، ولأنه كان يشكو البرد دومًا، فبدأت به قبل أي أحد.


حدثني رجلًا قد احتل الشيب رأسه لا أعلم هل بسبب عمره أم كان ذلك من هول ما رأى

: ادعي لهم ما تعذبش حالك، بعد الظهر بنروح نقبرهم في المقبرة الجماعية.


أجبته بتلك الغصة التي لم تفارقني منذ استيقظت

: معلش يا عمو، لحاف واحد كمان وبيتدفوا، وبيعود كل شي.


صرخ أحدهم وقد بدت عينيه هزيلتين

: حنا مكتوبة علينا الشهادة 

كلنا بنموت وكلنا لهاد الطريق 

إذا اليوم هو دور أهلينا فحنا لاحقينهم لاحقينهم


قال شخص آخر، وقد بدى صابرًا محتسبًا

: خود اشرب ميّ، وتعا نصلي ركعتين


رفعت رأسي بغضبٍ، كنت أريد أن آمرهم بالابتعاد عني، لكني رأيت أن أعينهم لم تكن مصوبة نحوي، وتلك المواساة ليست إلا لتواسيهم!


عدت إلى ما كنت أريد فعله، وأخذت أبحث عن ذاك اللحاف الذي سيكفي لتدفئة أخوتي وأمي..


وجدته وأخيرًا ملقًا على الأرض، هممت بأخذه، إلا أنني ذهلت بجسدٍ مشوهٍ يقبعُ خلفه، ورغم أنه لم يكن هناك ملامحًا للجثة، لكنني تعرفت عليه، لقد كان أنا!

لم أفق بعد من صدمتني، ووجدت أناس يحملون جسدي المشوه، وأخي الصغير يلحق بهم باكيًا..


طفلٌ لم يتخطى السادسة بعد ما زال لا يعرف شيئًا عن الموت، ما زال لا يفهم معنى الفراق الأبدي، فكيف سيتحمل فراق الجميع وإلى الأبد؟!


لقد نجوت أنا وعائلتي من كل هذا الظلم والوحشية والخذلان، ولم يتبقَ سوى أخي الأصغر..

كل ما أريد الآن أن احتضنه، مربتًا على ظهره، مخبرًا إياه:

أن يصمد ويقاوم إلى أن يأتي ذلك اليوم

اليوم الذي سيثأر فيه لدموعه، ولفراقنا، ولهذه الأرض.

Post a Comment

أحدث أقدم