عمان 5 شباط - اختارت لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان؛ الفيلم الفرنسي "جوزيب" للمخرج اوريل لعرضه على شاشة قسم السينما في شومان في مقر المؤسسة بجبل عمان يوم غد الثلاثاء الموافق 6 شباط في تمام الساعة السادسة والنصف مساء.
أكثر ما يلفت في فيلم الرسوم المتحركة "جوزيب" (2020)، انه يأتي بمثابة تلك التحية التي يوجهها مخرج الفيلم السينمائي المبدع في عالم الكارتون الرسام الفرنسي الذائع الشهرة في فن الكاريكاتير "أوريل"، إلى زميله رسام الكاريكاتير الإسباني "جوزيب بارتولي"، الراحل عن عالمنا منذ 30 عاما، ومن اسمه الأول جرت عنونة الفيلم.
استهل الفيلم احداثه مع الشرطي الفرنسي سيرج وهو على فراش الموت، وقد أصابه ضعف الذاكرة عندما يأخذ في سرد سيرة معاناته حين عمل في معسكر اعتقال داخل فرنسا للاجئين الإسبان الهاربين من حكم فرانكو، ومصادقته وإنقاذه للمعتقل الإسباني الرسام جوزيف، على حفيده الشاب بتأثر بليغ، ليصحب المتلقي عبر الخطوط والرسوم المتحركة برحلة درامية اليفة مفعمة بالألوان وجماليات التدرج بين الضوء والظلال في سرد حكائي ينبش بالزمان والمكان.
استمد مخرج الفيلم، وهو رسام الكاريكاتير الصحفي في صحيفتي "لوموند" و"لو كانار إنشينيه" الفرنسيتين، محطات ووقفات من سيرة زميله الآخر وهو رسام موهوب، عرف باسم "جوزيب"، وثق في كتاب مصور بخطوط الكارتون الحياة الصعبة القاسية التي شهدها ابان تواجده كلاجئ في مكان هو اشبه بمعسكر اعتقال، كانت أقامته حكومة فرنسا على الحدود مع اسبانيا لاستقبال الاسبان الناشطين في مقاومة الجنرال "فرانكو"، ولم يشفع شعار الحكومة الفرنسية: "الحرية، المساواة، والأخوة" لهؤلاء اللاجئين بالعيش بسلام وأمان، حيث كان يشهد مكان ايواء اللاجئين الإسبان الفارين من بطش "فرانكو" إلى الحدود الفرنسية، الكثير من صنوف الموت والمرض والجوع والقهر والعذاب اليومي .
لجأ الفنان/المخرج الفرنسي الى تقديم هذه المعاناة بالوان وخطوط ورسومات تتطابق مع الاحداث الجسام التي عانى منها هؤلاء اللاجئون والتي تترافق مع إبراز تضاريس المكان في تلك البيئة الحدودية الواقعة بين فرنسا واسبانيا، وكانت النتيجة عملا ابداعيا لفيلم متخم بصنوف الدراما والموسيقى والتوظيف المتين لمناخات تلك الحقبة العائدة إلى نهايات العقد الثالث من القرن الفائت، ومنها ينتقل الفيلم بسلاسة إلى فترات زمنية لاحقة في حياة الرسام الإسباني الذي ينتقل من فرنسا إلى اميركا اللاتينية ومنها إلى اسبانيا بعد سقوط حكم الجنرال "فرانكو".
قيام "اوريل" بتحويل حكايات البوم زميله الإسباني "بارتولي" المرسومة بالكارتون، إلى فيلم "انيميشن" من النوع الطويل، هو بحد ذاته نجاح لافت لصانعه في المرور الهادئ والآسر بين مفاهيم واحكام وقواعد الفيلم السينمائي الدرامي إلى تقديم عمل سمعي بصري يتكئ على جماليات سينما التحريك، وهو بحد ذاته مجازفة إبداعية لرسام كاريكاتير اتاح الفرصة لعشاق السينما الرؤية على نحو أعمق وأوسع لتلك الممارسات الفظة التي قامت بها حكومة فرنسية آنذاك، تجاه اولئك الإسبان من الباحثين عن الحرية والخلاص، قبل أن تصبح هذه الحكومة فريسة لقوات النازي بعد وقت قصير من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهو بالتالي عمل يعزز من قوة رسالة الفيلم الجمالية والإنسانية، والتي تعني الانتصار للإنسان في تصديه لواقع مأزوم بالحروب والكوارث والأوبئة والمجبول بالتحولات الجسام الموزعة في الاتجاهات كافة.
فيلم "جوزيب" يطلق صرخة لاحترام كرامة الإنسان في أوقات حرجة، فالرسام الإسباني الذي غدا كأنه سجين، يتعرض مثل باقي مواطنيه لظروف صعبة، فهو يعاني من سوء التغذية، والإهمال، وسوء المعاملة، والإهانة يومًا بعد يوم، ولكنه يأخذ على نفسه الصمود. قاوم "جوزيب"، ولا سيما بفضل موهبته غير العادية في رسم رسومات تخطيطية للرعب اليومي مكنه من تحمل المحن الناجمة عن الموقف وفي نفس الوقت الشهادة على الظلم.
صوّر "اوريل" أحداث فيلمه، بصدق وأسلوبية فطنة في اللجوء إلى خطوط ورسوم هي أشبه باللوحات التشكيلية، ففيها رسم شخصيات كارتونية ذات أصل من الواقع، مثخنة بألوان من تعابير المعاناة في هيئات نحيلة، مريضة، مشلولة، ويائسة بلا جاذبية، كأنها قادمة من عوالم الرسام "غويا" في الماضي البعيد، هذا ما جعل فيلم "جوزيب" ثري بمرجعياته ومعالجاته في تقديم تفسيرات تاريخية، بالإضافة إلى تحولات شخصيته الرئيسية المثيرة للإهتمام خصوصا في علاقته المضطربة مع الرسامة المكسيكية "فريدا كاهلو"، فضلا عن طريقة المخرج/ فنان الكاريكاتير في تقديم رؤية حديثة لفيلم من نوعية الصور المتحركة، داخل بناء درامي فتّان، سواء في تتبع الأحداث وتوظيف شريط الصوت من مؤثرات وموسيقى دارجة أو في اللجوء إلى استخدامات "الفلاش باك"، و"الفلاش للأمام" في الحبكات العاطفية ودوافعها السياسية كما في مشاهد علاقة "جوزيب" مع الرسامة "فريدا كاهلو"، والتي صورها المخرج بالوان فاقعة الإضاءة مغايرة لإيقاع الفيلم الذي طرح فيه رؤى إنسانية بليغة ستظل عالقة في وجدان عشاق السينما.
إرسال تعليق