الكاتبة رشا هشام
تنويه :
((أحداث هذه القصَّة من وحي الخيال .
لا داعي لربطها مع حياتي ، حتّى لو تعارضتْ بعض ملامحها مفهومًا معها .
إن أحببتَ دخول الخيال معي أكمل القراءة
أو تابع تصَفُّحك بعيدًا عن قصَّتي الَّتي سيتبعها أجزاء
واعفني من تخميناتك ))
....
الجزء الأول
أخبرني الطَّبيب بدمٍ باردٍ ، بأنِّي مصابةٌ بمرضٍ يصنِّفُ عالميًّا بأنَّه أحد الأَسباب المؤدّية للانتحار .
كان زوجي بجواري حينها ، وبدا عليه القلق ممَّا سمعهُ ، فأخبرتهُ أنّ يتطمئن ، فلديَّ أسبابٌ أخرى تدفعني للانتحار
ولكنَّني لم أفعلْ .
قاطعني زوجيّ سائلاً الطّبيب : أليستْ الممثِّلة [مارلين مونرو] كانت تعاني من هذا المرض؟
_ لا أعلم سبب سؤاله هذا ، هل يعتقد أنِّي سأبتهجُ حين أراها أمامي في جهنَّم؟!
ابتسمَ الطّبيبُ ابتسامة مُعقَّمة ،وأكّد على كلام زوجي .
فتجاوزت كلّ هذا الحنقِ وسألتهُ إن نجحتْ في الخلَاص من المرض ،
لكنَّ الطَّبيب أخبرني أنّهُ لم يكتشف بعد علاج له، وأسبابهُ مجهولة إلى اللَّحظة .
فقلتُ ماذا عن مارلين، فقال : إنّها ماتتْ مُنتحرةً بجرعةٍ كبيرةٍ من المهدِّئات، الّتي بدا لي أنّهُ يدوِّن في الوصفة
_على طاولته_ بعضًا منها .
مارلين مونرووووو هكذا نطقها فورَ خروجنا من العيادة
وتبعتها بابتسامةٍ ناقمةٍ، وعلى ما يبدو أنَّ المرض أهون عليّ من تذكُّر زوجي ل مارلين مونرو
وبقيتُ طيلة الوقت الَّذي قضيناه في طرِيقنا للمنزل لا أكف عن سؤاله عمَّا يعرِفهُ عنها، وبعد أول لحظة صمتٍ بيننا ، سألتهُ مباغتة : هل تحبُّ مارلين أكثر منِّي ؟
لقد أخذ الأمرُ منحى أبعد ممَّا تصوَّرت،فوجدتُ نفسي غارقةبالغيّرة،متجاهِلة إصابتي بهذا المرض النادر .
الجزء الثاني
قبل زيارتي لِذلك الطبيب ، تنقلتُ بين مجموعة من الأطبَّاء ، وكانتْ أوَّل طُرُق العلاج هي مضغ اللِّبَان
حيث نَصحني بها أوَّل طبيب شكوتُ لهُ حَالَتي ، جرَّاء الطنين غَير المنقطع الذي أسمعه في رأسي ، ولم يكن يَكُف عن ترديدِ العبارة ذاتها ( عليكِ بِمَضغ اللِّبَان )
زاعمًا أنَّ مُشكلتي تَكمُن في ضَغط الأذن
وفي كُلِّ مرَّة أعود فيها لعيادتهِ ، كان يُكرِّر ذات الطَّريقة فِي الفحْص ،
ثُمَّ يقول لي مُعاتِبًا : أنتِ لا تَمضغِين اللِّبَان بشكلٍ كافٍ ،
حتَّى أنني شَككتُ حِينهَا أَنَّهُ وكيل لشركة علكة ، وأنَّ شهاداته العلميَّة الّتي يُعَلقها خَلفهُ جميعها مُلصقة بِقطع اللِّبَان .
تنقلتُ بُعدهُ بين عِدَّة عِيادات ، وتعرفتُ على الكثير من الأطبَّاء والقليل من المرضى ،
فبعضهم سَارع لِلانتحار بعد أن مَضغُوا كمِّيَّات هَائِلة من اللِّبَان .
أَثنَاء انتظاري في إحدى العيادات ، جلستُ بجوار مريض يُعَاني مَا أُعانيه ، كان المكان هادئًا لدرجة تمكُّن كُلٍّ مِنَّا سماع طنَّين الآخر
وكان الأمر بغاية الإزعاج ، مِمَّا جعلني أُبَادر بِالحديث وعرفتُ منهُ أنَّ الرَّسَّام الهولنديَّ [ فان غوخ ] كان يُعَاني من هذا المرض ،
فسرني جدًّا أن أَجد مثالاً غير مارلين مُونرو المستفزَّة لجيوش غيرتي .
سألتهُ عن نهاية المرض مع الرَّسَّام نظر إليَّ بائساً وقال
إنَّ فان أطلق النَّار على صدره ومات ..
فقلتُ لهُ بصدمة : ألا يُفتَرَض أن يُطلِق النَّار على مكان الطنِين بدلاً من صدره ؟ ! !
وهربتْ من تلك العيادة قبل أن أَدخل إِلى الطبيب فقد كان جواب ذاك الشاب كافيًا حين ردَّ على سُؤالي
وقال : فان غوخ قد قطع أذنه قبل ذلك .
الجزء الثالث
تناولتُ عند العودة أوّل جرعةٍ من المهدّئات ، قلتُ في نفسي إن لم تفيد سأعود للطّبيب ، لعلّهُ يكتبُ لي وصفة تحوي مُسدّساً ليصرفها الصّيدليّ من بعدهِ ثلاث رصاصاتٍ يوميّاً
أو ربّما أسمع نصيحة صديقتي ، وأذهب إلى شيخ أطلبُ منهُ المساعدة .
حتماً سيكون مع الشّيخ عصاً، يجبر بها من يسبّب الطّنين في رأسي المغادرة على الفورِ
فوقتُ الدَّلال واللّبان قد انتهى ، وليستشيط
_الدّجَّال أو الشّيخ لا فرق_ غيظاً ويبذلُ ما بوسعهِ سأخبرهُ
بأنّ الوغد الّذي يسكنُ رأسي يريد أخذي
إلى جهنّم حيث مارلين وبقيّة الرّفاق .
أصبحتُ أسخر من نفسي بقدرِ ما يسبّبه هذا المرض من إزعاجٍ غير محتمل .
قد شرحتُ لزميلاتي في العملِ عمّا يحدث معي واقترحتْ إحداهنَّ أنّ أقدم العسل وزيت الزّيتون ، وحرّصتْ عليّ بأن يكون أصليّاً غير مغشوشٍ ،
وكأنّهُ نزيلٌ ويجب عليّ تقديم الخدمة الممتَازة له .
زميلةٌ أخرى قالت : إنَّ من يصدر الطّنين في رأسِكِ
حشرة ،
حشرة صغيرة ،
حشرة صغيرة جدّاً ،
جدّاً ، جدّاً، جدّاً
حتَّى كادتْ زميلتي أن تختفي مع تردُّدات جملتها ،
دون أنّ أصل لنتيجةٍ .
لمْ أنمْ جيّداً تلك اللّيلة ، بل لم أنم جيّداً منذ
إصابتي بهذا المرض .
أصبحتْ بشرتي باردة ، باهتة، وعيوني الملوَّنة قد غرقتْ في سواد الهالات .
اتّبع الأسلوب السّاخر في كلِّ الأمور ، وكأن الأمر لا يعنيني أدور مع نفسي بشكلٍ حلزوني مع نوبات الدّوار الّتي تصاحب الطّنين .
رحتُ أبحثُ عن معلوماتٍ جديدةٍ عن المرض
وقد انضمَّ إلينا (تشارلز داروين)
مؤسِّس نظريَّة التّطوّر فمن المحتمل إصابته أيضًا بنفس المرض
وهو القائل إنّ أصل الإنسان قرد ، وهذا يعني أنَّ مارلين كانتْ قردًا ،
وما لبثتْ الابتسامة أن تشقّ طريقها إلى ملامحي حتَّى عاد صوتُ _زميلتي_ المزعج بل
حشرة
حشرة صغيرة
حشرة صغيرة جدّاً
جدّاً
جدّاً
جدّاً
أصبح زوجي يُخفي الأدوات الحادَّة، ويحكم إغلاق النَّوافذ ، ويسكب كلُّ موادّ التّنظيف والمعقّمات في فوَّهات الصَّرف ،
حتّى قام بالتّخلّص من جميع أنواع الأدوية ولم يبقي إلّا على المهدّئات الّتي أوصى بها الطّبيب.
كانتْ نظرة واحدة مني إلى السَّقف كافيةً ليقوم بإزالة كلّ من شأنهِ أن يكون أداة أعلّق بها حبل مشنقتي .
لا أعلم لم تلك الاحتياطات كلّها ؟
فأنا لو فكّرتُ بالانتحارِ ، لن أقوم بأيّ وسيلةٍ من تلك الوسائل الغبيّة ،
على الأغلب سأبتكرُ طريقة تحفُّظ لي أنوثتي وتعفيني من بكاء محتملٍ .
ربّما أغرقُ نفسي في البانيو ، وتبقى ملامحي بلا تشويهٍ .
جملة مثلُ هذه كانتْ كافيةً بأن تختفي سدادة البانيو من منزلي !!
قد ترى أيُّها القارئ أنَّ هذا المرض مُسلّياً ،
وقد كانت أولى طرق علاجه مضغ اللّبان، ولكن دعني أشرحُ لك بتبسيطٍ مفتعل
إنّهُ مرض مينيير ( Meniere ، s disease )
ما يدور في رأس المريض أمر فظيع جدّاً .
هو مرضٌ يدعو إلى الصّراخ ، مع تفاوت حالة المصابين بهِ ويعاني المصابون به من صوت طنّين غير منقطع في الرَّأس ، مع نوبات دوارٍ متفاوتةٍ الظّهور .
بعضُ المصابين يتصرَّفون باندفاع كبيرٍ ويتحدَّثون وكأنَّ قنبلةً على وشك الانفجار في رأسه.
عندما يصدر التّلفاز طنيناً مفاجئاً ، ماذا تفعل عزيزي القارئ ؟؟
كيف تقفز من مكانك لتكتُّم الصّوت ؟؟
أو هل سبق وسمعتْ أصوات سيَّارات النَّجدة والإسعاف ، وهي تنقّلُ الضّحايا على أثر كارثةٍ ؟
هذا ما يحدثُ بالضَّبط في رأسي .
هذا المرض المنير أشبه بوقوفك على حافّةٍ مرتفعةٍ تُشعرك بالدُّوار ، ثمَّ تسقط وبنفس الوقت أحدهم يصرخ بالجوار، تظلّ تسقط من دون أن تصل إلى القاع ، ويستمرَّ الصّراخ دون أن ينقطع !!
كثير منَّا نحن المصابون نعيش حياة طبيعيَّة ، فقط لأنّنا اعتدنا عليه ، ولكن قد نمرّ من حينٍ لآخر بنوبات ألمٍ ، لا تنفع معها المهدّئات .
الآن أفترِضُ أنّ منيير أصبح صديقي المفضَّل.
أستمع للموسيقى الَّتي يحبُّها ، ولا أذهبُ للأماكن الّتي تثيرُ جنونه ونوباتهِ ،
كما اعتذر عن المكالمات الهاتفيَّة الطَّويلة قدر الإمكان ، لأنّ صديقي منيير قدْ رفعَ سمَّاعة الهاتف في رأسي ولم يعدها ، وما يزالُ الطَّنين مستمرّاً .
إلى الآن
أنا أبحثُ عن رقم غريمتي مارلين لإخبرها أنّني لم أفكّرْ باللّحاق بها على الأقلّ إلى هذه اللَّحظَة .
النهاية .
إرسال تعليق