مسؤولية الكاتب عن شخصياته: حديث بول أوستر

 


الكاتبة غلاء أنس

"إننا نحنُ، الأخيلة المُلفقة لعقلٍ آخر، سوف نعيش أكثر من العقل الذي ابتدعنا، إن نُرمى في العالم، حتى نواصل العيش إلى الأبد، وقصصنا تُروى دوماً، حتى بعد موتنا"


رحلات في حجرة الكتابة – بول أوستر


عملٌ أدبي مُدهش، مؤلم للغاية ومثير للكثير من الأسئلة.

يستيقظ العجوز بلانك في غرفة يجد فيها نفسه وحيداً، لا يدري من أوصله إليها ولا ما يفعله ولا مكان وجوده ولا غايته، بل إنَّ كل ما يشغل فكره مداراة هشاشة جسده الكهل والعناية به والحركة بشكل بطيء وبخطوات محسوبة ومدروسة، كي لا يتسبب لنفسه بالأذية أو الضرر، وأثناء ذلك، فإنه يبدأ في استكشاف بسيط للمكان حوله.

يُدرك السيد بلانك أنه محجوز في غرفته لتلقي العلاج، غير أن الأدوية التي يُرغم على شربها صباحاً ومساءً تتسبب له بالنسيان المتكرر وضبابية الذاكرة، فلا يذكر شيئاً عن حياته التي عاشها ولا يعرف طبيعة عمله السابق ولا الأشخاص الذين كانوا يظهرون فجأة في غرفته، يدَّعون أنهم يعرفونه منذ زمن.

يجد السيد بلانك تقريراً أمامه يحكي قصة مفتوحة النهاية، تتسبب له بالتشوش في الذاكرة والانزعاج الشديد، لا سيَّما عندما يُطلب منه إنهاءها بطريقته، أما تعلقه بآنا وصوفي اللتان تناوبتا على خدمته، فكان يُنبئ عن ألمٍ شديد يصيبه، يُحس به من دون أن يعرفه، ويشعر بالرغبة في الاعتذار عنه دائماً، لقد كانت الشخصيات من حوله تشير إلى أنه تسبَّب لها بالأذية بطريقة أو بأخرى، غير أنها تسامحه وتريد رعايته، وفي النهاية يكتشف أنه مُتهم بعدة جرائم، يحاول مُحاميه تخليصه منها.

تتمحور الرواية حول ألم السيد بلانك المُتجدد، والمختلف في شكله ولونه وطريقته، فهو يكره عجزه وضعفه وهشاشته ويُحرج من رغباته ويبكي في مواقف يستعطف فيها الآخرين ويشعر بالسأم الضخم يُثقل عليه، يدور ذهنه في حيرة لا يُمكنه حلُّها رغم محاولاته الشديدة، ويجد نفسه عاجزاً عن فهم أي شيء، ومعرفة أي أمر، حتى تقع يده على تقريرٍ يتناول حياته في الغرفة، فتقع عليه الحقيقة قاسية وأليمة، ليقذف بالملف خلف ظهره في انزعاج شديد، وتنتهي الرواية عندئذٍ.

مُلحقة بالرواية صفحة واحدة، يشير فيها الراوي إلى حياة السيد بلانك المُمتدة حتى بعد تخلي السارد السابق عنه، والذي كتب عنه وعن حياته وعلاقاته وجرائمه، ليجد القارئ نفسه أمام فقرات تُريد منه إعادة قولبة الرواية من جديد لفهم ما تعذر عليه من قبل، فيشعر بالتعاطف الشديد مع ما تُضطر الشخصية الرواية إلى عيشه بعد تخلي السارد عنها، وتُلمِّح إلى المسؤولية الأخلاقية التي يحملها السارد تجاه شخصياته.

إنها رواية عبقرية، أليمة، وغاية في الجمال.

Post a Comment

أحدث أقدم