جماليات التهكم: جوديث بتلر، عبد السلام بنعبد العالي وريتشارد رورتي

 


 الكاتبة غلاء أنس 

هناك فكرة شيِّقة تنبُت في هذه الكتب الثلاث، تبرز على استحياءٍ مع جودث بتلر في "الذات تصف نفسها"، يساعدها عبد السلام بنعبد العالي في النموِّ وإن بصورة بسيطة ومُبهمة في "أشياء سبق الحديث عنها"، بينما يُبدع ريتشارد رورتي في وصفها ويحملها إلى آفاق عديدة في "المُتهكم الليبرالي"، بل ينصِّبها على الفلسفات والآداب، على المقولات والروايات، ويحلِّلها بصورة عجيبة وجميلة، خالقاً لها عالمها "الأنثوي" الجميل، في مقابل العالم "الذكوري" الصارم.

أتحدث عن مفهوم التهكم النابع من عرضية الوجود.

تمكَّنت جوديث بتلر من الحديث بصورة جادة وأسلوب فلسفي صارم حول السردية المُحتملة التي يكون عليها كلٌّ منا، ونقلت إليَّ صورة لذيذة متمثلة في أن الإنسان كائن منغلق على ذاته، تحاول اللغة باستمرار معه ليفصح عن مكنونه، وعندما يثق بها ويستعين بها للتعبير، تقيم عليه قوانينها وأحكامها ونحوها وتخضعه إليها، فيغدو تعبيره جافاً، لا يُلائمه، وفي الوقت ذاته يؤمن به ويتبنَّاه، ويُعلن قائلاً: "هذه مقولتي! وهذه لغتي!"، رغم إدراكه أنها مقولات عَرَضية، وأنَّ وجوده عَرَضي، وأنه سردية مُتنقلة تحاول البحث عن أداة تعبيرٍ جديرة، عبثاً:

"إنَّ الوصف الذي أقدِّمه لذاتي في الخطاب لا يعبِّر تماماً عن هذه الذات أو يحملها. كلماتي تؤخذ مني ما إن أقدمها، يقاطعها زمن الخطاب الذي يختلف عن زمن حياتي. وهذه "المقاطعة" تنافس الإحساس بأنَّ الوصف مُتجذر في نفسي فقط، ما دامت البُنى المختلفة التي تُمكنني من الحياة تنتمي إلى اجتماعية تتجاوزني"

المرء مُحاولة سردية، هذا ما تشير إليه جوديث بتلر، كلٌّ منا يحاول سرد وجوده بصورة أو بأخرى، باللغة أو غيرها، بالفعل أو سواه، غير أنَّ هذه المحاولات تبدأ من منتصف الطريق، بعد أن نكون قد عشنا مع أنفسنا زمناً طويلاً، تعرَّفنا فيه إلى نتاج المحيط فينا، أثر الآخرين علينا، بصمة الواقع على أرواحنا، ما يعني أنَّ سرد المرء لنفسه يبدأ من منتصف الحبكة: "بعد وقوع العديد من الأشياء التي تجعلني وقصتي محتمَلَي الوقوع في اللغة. أنا منهمكة في حالة استعادة وإعادة تكوين دائمة، ومتروكة لنسج الحكايات الخيالية وابتكار خرافة الأصول التي لا أستطيع معرفتها".

والآن، يتناول عبد السلام بنعبد العالي هذه الفكرة، والعائمة بين العَرَضية والتهكم المُبهم، ويوضح مفهومه حول "السخرية".

يقول عبد السلام في كتابه "أشياء سبق الحديث عنها"، أنَّ السخرية هي الموقف الأكثر تواضعاً وسلامة تجاه العالم والفلسفات، إنها المفهوم العائم بين الهزل والجدية، وهي التي تتشبث بالجواز والاحتمال، وبالظاهر الذي يُمكن أن يكون، وبالحقيقة التي تناسبني اليوم وقد أرفضها في الغد، وبالوجود الذي أسعدني اليوم رغم انتقادي له في الأمس، إنَّ السخرية لديه "تحرُّر من عنف البداهات"، أي ضد الميتافيزيقيا، وضد كل الحقائق التي تجتهد لأن تُثبت نفسها، فليست المعضلة في أننا لا نصدقها، بل في أننا لا نريدها.

ومن هنا، فليست هناك ثنائية سطحٍ وعمقٍ كي تفهمها السخرية وتفرِّق بينهما، بل إنَّها تُدرك تماماً أنَّ العمق قناع يرتديه السطح في محاولة منه أن يبين بغير وجه، أو بغير حقيقة، إنَّ السخرية تعرف تماماً مواضع الخداع، رغم أنَّ ذلك لا يمثل محور بحثها.

وبمعنى آخر، يوظف عبد السلام مفهوم "السخرية" للدلالة على موقفٍ من الوجود يُدرك العرضية وينفي الثنائية ويدحض الموقف الميتافيزيقي الصارم، ولذلك فإنه يعرف بأنَّ الحقيقة "تتبع آليات لا شعورية، وترضخ لمكرٍ تاريخي، وتخضع لخبث سيميولوجي، وتغرق في تيهٍ أنطولوجي، وتنبني على سوء تفاهم أصلي".

والآن، فإنَّ عبد السلام يتحدث عن التهكم بمعنى مضاد للسخرية، فالتهكم في نظره يضع المرء فوق الشيء أو الآخر فيجيز له التهكم منه، يتميَّز بفقر هوياتيٍّ وإيمانٍ بالمُطلق أو المرجع أو المعيار، وبمعنى آخر، فإنه يجعل التهكم تعبيراً عن فقرٍ في القدرة الفلسفية، أو مَلَكة الفهم، وهذا تمييز مُهم لأنَّ ريتشارد رورتي، والذي ترجم له كتابه فتحي المسكيني، يستخدم مصطلح التهكم بالدلالة ذاتها التي استخدم فيها عبد السلام مصطلح السخرية.

التهكم عند رورتي هو السخرية عند عبد السلام بنعبد العالي.

أما ريتشارد رورتي في كتابه "المُتهكم الليبرالي"، فيتناول مفهوم التهكم من حيث هو موقف فلسفي يدرك عرضية الوجود الإنساني، عرضية لغته وتاريخه وشخصيته وإيمانه وفكره ومعتقده وحقائقه، بل لا سيَّما حقائقه، ويتجاوز ذلك من أجل تحقيق المصلحة الأكثر تناسباً مع حاضر المرء، فلا يكون السؤال الأكثر جدارة متعلقاً بالحقيقة بما هي هي، أو الوجود بما هو هو، بل بالحقيقة الأكثر تلاؤماً مع الحالة الإنسانية اليوم، والوجود الأكثر جدارة بنا جميعاً، أي بالخيال الأكثر أخلاقية والذي يضمنا جميعاً، بصرف النظر عن استناده إلى حقيقة ميتافيزيقية ما، بل من دون استناده إلى أيِّ أساس صلب يبتغي الدوام والثبات، فالحال الإنساني متبدل ومتغير، ومحاولات المرء سرد قصته لا تنتهي:

 "التهكم هو شفاء فلسفي طريف من الطمع الميتافيزيقي التقليدي في العثور على ’مُعجم المعاجم‘، أي على ’المُعجم المحايد والكوني‘ الذي يكون طريقاً مَلَكياً نحو الحقيقة التي لا تقبل الشك".

ومن هنا، ينبع تهكم رورتي من موضعة الفلسفة موضعها الأخلاقي الجدير، أي عدِّها سلَّماً يوصلنا إلى الخيال الذي نريد، فنتخلص منها عند لمسه أخيراً، إنَّ الفلسفة لديه ضرورة مُلحة لنتعلم التهكم الصائب، أي استيعاب الوجود بكامل عرضيته، وإنتاجه من جديد في صورة تناسبنا نحن، إنَّ التغلب على شبح الثبات الذي ورثناه من الماضي لا يتمُّ إلَّا بامتلاكنا مُخيلة صحية أوصلتنا إليها الفلسفة، ومكَّنتنا من إدراك إرادتنا وقوتنا في خلق العالم الذي نريد: "لن يُحرِّر العقول من هوس ’النظرية‘ المُطلقة مثل ’قصة‘ جديدة عن أنفسهم".

وهنا يتضح "ملل" رورتي من العزاء الميتافيزيقي الذي ما فتئت ثقافتنا ترفدنا به في مقابل المشاكل العديدة التي نعيشها، والناتجة عن عدم فهمنا طبائعنا الإنسانية وحاجتها، يريد رورتي ببساطة أن يضع الإنسان في مواجهة عرضية الحقيقة، وهي الحقيقة الأكثر صواباً على مدى التاريخ، وأن يستفزَّ منه الشجاعة والجرأة للاعتراف بمكانته في قالب الوجود، من دون الاستعانة بأية أرضية أو مرجع أو أصل، فقط إلى الإنسان بما هو عليه، أي بالعنصر الثابت فيه والأكثر تبدُّلاً.

جوديث بتلر تفلسفت في المفهوم الذاتي، عبد السلام تفلسف في المفهوم اللغوي - الفلسفي، وريتشارد رورتي تفلسف في المفهوم الاجتماعي، وثلاثتهم خرجوا بالمقولة ذاتها، بصيغ عديدة، بدرجات دقة مختلفة، وبصورٍ متنوعة تشير إلى جمال الخطاب الإنساني عندما يُغازل الحقيقة الأكثر حضوراً، فتصبغه بصبغته وتُرسله إلينا، ليُنبئنا الخبر اليقين.


Post a Comment

أحدث أقدم