الكاتبة غلاء أنس
في كل مرة تقرأ فيها خبراً عن الكوارث الحادثة في بلادنا العربية وغيرها، يتبعه خبر عن إطلالة نانسي في المهرجان الفلاني، وآخر عن روتين حياة لاعبٍ في المباريات، وآخر عن فشل المنظومة التعليمية في أحد البلدان، يتبعه جريمة بحق امرأة حاولت الدفاع عن نفسها، وآخر عن مشاجرة محتدمة بين "انفلونسرز" لا يتعدى أحدهما العشرين من العمر، ولا تتعدى مستويات فكرهما الحضيض الذي يعيش فيه المعظم، أي ببساطة، في كل مرة تقع عينك على أيِّ صحيفة أو موقع إخباري أو حتى على الأخبار التي يقدمها لك غوغل كل صباح، لتبدأ بها يومك وقد تمت برمجتك كما يريد النظام، تذكر نبوءة هكسلي، لا جورج أورويل.
في الكتاب الذي أعمل على ترجمته هذا الشهر، "أن نُسلِّي أنفسنا حتى الموت" لنيل بوستمان، والذي نُشر عام 1985، يذكر الكاتب في المُقدمة استناده إلى نبوءة هكسلي حول العالم الجديد، لا نبوءة أورويل. لقد تنبأ أورويل بنظام خارجي قمعي، يحرم الفرد الفِكر والحقيقة والتاريخ والقراءة والاستقلالية، يسلب منهم المعرفة ويتحكم بهم عبر الألم.
ولكن نبوءة هكسلي كانت عن نظامٍ داخلي ذائب، يجعل الترفيه إلهاً جديداً فوق كلِّ اعتبار، فيُميِّع حتى السياسة والدين والعلوم، وتصبح الحقيقة عائمة وسط بحرٍ من المعلومات الوفيرة والغزيرة، والتاريخ مشكوك في أمره وغير أكيد، والقراءة شأن مُمل لأن ثقافة الكلمة المكتوبة تُسحق كل يوم أسفل ثقافة الصورة والفيديوهات القصيرة، والتفكير شأن مُتعب مقوماته غير متواجدة، والتعليم تحضير عسكري واجتماعي للأدوار المرسومة مسبقاً، والاستقلالية مشوهة لتتمثل في الحريات السطحية والتيه في الهويات الجنسية، لضمان الانشغال الدائم بالنفس والذات والأنا.
أشار هكسلي في روايته، "عالم جديد شجاع" إلى أنَّ الليبراليين المدنيين والعقلانيين الذين لطالما كانوا متأهبين لمعارضة الطغيان "عجزوا عن فهم شهية الإنسان اللامتناهية، تقريباً، إلى المُشتِّتات والمُلهيات". لقد خشي أورويل أن يدمِّرنا ما نكرهه من أوجه الطغيان والقمع، ولكنَّ هكسلي خشي أن يدمِّرنا ما نحبُّه من مُلهيات وأوجه المتعة والتسلية. لذلك فإنَّ الكتاب الذي أترجمه يقوم على نبوءة هكسلي، وذلك فقط في عام 1985، أي حتى قبل ظهور الإنترنت.
وبشأن "الحقيقة"، الغزال الضالّ من الإنسان منذ الأزل، فلا حاجة إلى إخفائها اليوم أو الكذب بشأنها، كلُّ ما يفعله النظام تقديمها لنا على طبق من ذهب، ولكن بعد أن يحيطها بكمٍّ هائل من الأكاذيب والتفاهات، وبعد أن يبرمجنا على الشكِّ في قدرتنا على الاستكناه، وبعد تهيئتنا نفسياً لقبول ما يُمليه علينا "العنصر الخفيُّ"، وبعد إبعادنا قصداً وعمداً وضمن طرق مدروسة عن أي وسيلة جادة تفضي بنا إلى الحقيقة، لقد كفَّ النظام منذ زمنٍ عن محاربتنا وقمعنا، بل أوكل إلينا نحنُ هذه المهمة، وصرنا بارعين في تتفيه أنفسنا والحطِّ منها والتشكيك في قدراتنا على نيل المعرفة وتوظيفها وتمييز الصواب من الخطأ في عالمٍ يعجُّ بالنسبية الفائضة.
يحضرني الآن ما قاله عبد السلام بنعبد العالي عن "الكذب السياسي"، والذي يُقصد به خداع المشاهد حتى لو تطلب ذلك قول الحقيقة بعينها: "يُمكن أن يصدر عنا قول خاطئ من غير أن نكذب، لكن بإمكاننا أن نقول الحقيقة بهدف الخداع، أي الكذب". أي يُمكن أن ترد الحقيقة بالفعل على الوسائط، ولكن مُجزأة، مُهانة، تسبقها أخبار موضة الصيف، وتتبعها فضائح الفنانين ومناكفاتهم، حتى تصير الحقيقة ضمن سلسلة عابرة على الذهن من الأخبار، لا يستقرُّ منها شيء، ويُترك المشاهد كالمنوَّم مغناطيسياً، يفغر فاه وقد عطّل عقله أمام هذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات غير ذات الصلة، والمتتابعة في دفقٍ لا ينقطع أبداً.
يتابع عبد السلام بنعبد العالي: "بهذا المعنى يُمكننا أن نتكلم عن سوء نية أصلي، وخداع سيميولوجي يتجاوز الفاعلين ويتحدى الأخلاق. وبهذا المعنى أيضاً ينبغي أن نفهم إتلاف الحقيقة الذي تتحدث عنه آرندت على أنه .. [أصبح] تفتيتاً للحدث وحلِّه إلى وقائع جزئية تغيِّب معناه وتذيب دلالاته. إنه لم يعد إتلافاً للحقيقة، وإنما أصبح إتلافاً للمعنى". (أشياء سبق الحديث عنها).
وبعبارة أخرى، يعني الكذب الخداع والتمويه والسخرية، ولا يعني حجب الحقيقة، بل إنه يعني البرامج المُلهية بحد ذاتها، والتي تحلُّ محل برامج يجب تصويرها لتنبيه المجتمع الغافل، ويعني المنصات الإخبارية التي تبلِّد العقل والذهن وتخلق نماذج بشرية تحكم بلا فهم وتقول بلا معنى وتصرخ بلا مقولة وتتعصَّب بلا مرجعية وحتى تصلِّي من دون أن تعترف بما أملاه عليها الربَّ، فحتى الأخير تم استبداله بإله الزمن الجديد: الصورة المُدهشة.
يجب أن تندهش، يجب أن تظل مُستثاراً، ينبغي أن تتحدث بلا توقف وتُدلي برأيك في كلِّ مسألة، وأن تنشغل بكلِّ "تريند" وتعلِّق على كل صورة لكلِّ فنان وتتابع كل قناة ترفيهية وإعلامية كي لا يفوتك شيء، يجب ألا يفوتك أي شيء، يجب أن تظل متابعاً، وإياك يوماً أن تجلس وحدك، أو تصمت، أو تشعر، أو تسأل، أو تنتقد، أو ترفع نظرك إلى عين "الساحر".
يُريدونك أحمقا، لا مقموعاً، بالطبع تجد القمع في نهاية المطاف إن أعملتَ عقلك، ولكنهم سيحرصون على أن تظل أحمقاً، عندئذٍ لا داعي للقمع، وعندئذٍ ستظل ميزانية "تقديم المُرفهات" في ازدياد ضخم، ولن تضاهيها أية ميزانية أخرى، ربما الميزانية العسكرية.
كم من السهل عليهم أن يتسبَّبوا في كوارث إنسانية ضخمة، شبه مستحيلة التعويض والإصلاح، كما يحدث عندنا وفي السودان، وكما ذاقت معظم الدول العربية والدول النامية، وما تزال، فقط بتضخيم رغبة الإنسان في المُلهيات والتسلية، وخلق نموذج يسيل لعابه بلا انقطاع خلف كلِّ "مُدهش" ولافت.
لا أدري هل نحنُ في عصر التحوُّل إلى الدُّمى، أم دُمى الدُّمى ..
إرسال تعليق