اغتصاب


               

                    

الأديب نافذ سمان 

تهادى صوت المترجمة عبر الهاتف رقراقاً هادئاً جميلاً مطمئناً.

ياهً على لذة سماع صوتٍ يحمل لكنة تشبه لكنتك في الغربة، إنهم شعور لا يُقدّر بثمن.

أحسّت إمتثال ببعض الراحة والدفء ، بعد أن أزعجتها فكرة أن تُراجع طبيباً كلّ ما يفعله هو أن يسألها عن نومها وأوقات تسليتها ومزاجها ، إضافة لذكرياتها وما تحلم به أثناء نومها.

_ ها يا إمتثال، سأترجم لك أسئلة الدكتورة وسانقل لها إجاباتك بكلّ حيادية، عليك أن تطمئني، فأنا أقطن في بلدة تبعد عنكم الساعات الطوال ، وأنا أقسمتُ على المحافظة على أسرار من أقوم بالترجمة لهم.

أريدك أن تكوني مرتاحة وصادقة، حتى تستطيع الدكتورة أن تفهم وضعك وتساعدك.

فركت إمتثال بكلتا يديها وهي تقترب من الهاتف لتقول بصوت جهوريّ واثق:

_ وفّقك الله، ولكني لستُ بحاجة لطبيب، فأنا قويّة مثل شجرة.

ثم ما لبثت أن اقتربت أكثر وبدا صوتها أشبه بالدمدمة :

_ وماذا عن اُجرة الطبيبة ؟

ضحكت المترجمة، ودمدمت شيئاً لم تفهمه إمتثال، إلا أنّه وجد صدى لدى الطبيبة فارعة الطول والتي ضحكت بدورها.

_ لا تخشِ شيئاً حبيبتي، هذا كله مجاني، فقط ارتاحي.

تباسطت أسارير إمتثال وابتسمت للطبيبة مُمتنّة، والتي بدورها اقتربت منها، وقدّمت لها كوباً من القهوة التي عبقت رائحتها في المكان.

اتخذت الطبيبة مكاناً لها قرب إمتثال، ودمدمت شيئاً فسّرته المترجمة على الفور بأنه تطمين وترحيب من الطبيبة بها وبأسرتها في هذه البلاد البعيدة والغريبة، ثم سرعان ما حمل لها صمت المترجمة المؤقت أول أسئلة الطبيبة ، والذي كان قصيراً مُختصراً:

_ كيف تدبرتي أمر وصولك إلى هنا من دون مُعين مع أطفالك الكُثُر ؟

رفعت إمتثال حاجبيها وقالت ببرود :

_ تدبّرتُ أمري.

_ وماذا عن تكلفة الطريق المرتفعة؟

_ ربك موجود.

_ الطبيبة تطلب منك تفصيلاً وتفسيراً أكثر وضوحاً .

_ عبرتُ مع العيال سيراً على الأقدام إلى تركيا، وهناك بعت ما املك من مصاغ ذهبي، واستعملته في رحلتنا إلى اليونان ، حيث تعبتُ أيّما تعب، ولكني وصلتُ الآن، وهذا هو المهم .

" لم يكن من السهل الولوج إلى داخل تلك المرأة القوية"  

هذا ما توافقت عليه الطبيبة والمترجمة، ف

اكملتا ما بقي من الوقت في مناورات طويلة ، وكررتا تلك المناورات في جلستين تاليتين، حتى استطاعتها فك شيفرة إمتثال ذاك اليوم :

_ أفهم ما تُلمّحين له، ونعم، كنتُ أملكُ رأس مال قيّمٍ، مُتجدّدٍ، وكنتُ أمنحهُ لمن أراه قادراً على مساعدتي لإيصالي لهدفي.

أطرقت عندها الطبيبة رأسها أرضاً، فقد وصلت أخيراً إلى أعماق تلك المراة التي وصلت البلاد هاربة من بلادها برفقة سبع من الصغار.

تبادلت المترجمة والطبيبة دمدمات تؤكد صحة تشخيص الطبيبة للحالة.

_ هل اغتصبك أحد عُمّال غلإغاثة يا إمتثال؟

كان السؤال مُباشراً، صادماً.

نظرت إمتثال إلى السمّاعة التي تُعظّم صوت المترجمة وسألت:

_ لم لا يمكن للمرء أن يُدخّن هنا؟

_ من اجل نظام الإنذار من الحرائق يا عزيزتي.

_ هذه القهوة لا طعم لها ولا رائحة، قولي لها أنني أريد أن أدخّن سيجارة الآن.

أنصتت الطبيبة لثوان لصوت المترجمة، ثم وبخفّة ورشاقة، صعدت فوق الطاولة وفصلت جهاز الإنذار الأبيض التي يتوسط السقف ولوّحت به قائلة شيئاً نقلته المترجمة للتو:

_ إنه أمرٌ ممنوع ولكن الطبيبة فصلت الجهاز من أجلك عزيزتي، كوني فقط مرتاحة .

بقسمات وجه لم تتغيّر، أخرجت إمتثال علبة سجائر، وأشعلت واحدة من سيجاراتها الطويلة البيضاء.

أغمضت عينيها و هي تُطلق أول زفير دُخانيّ وقالت:

_ أنا لستُ بمُتعلّمة، ولكني لا أفهم الإغتصاب.

بدت الحيرة على ملامح الطبيبة وهي تسمع السؤال مترجماً، فقالت الشيء الذي أتت ترجمته عبر الهاتف:

_ إنه عملية تزاوج عاطفية جسدية ولكنه يتم بالإكراه والغصب والإجبار.

_ ولكن هذا ما قدّموه لي على أنّه زواج.

قالت إمتثال ببرودها الذي أدهش الطبيبة.

_ نعم، كان زوجي يغتصبني، كما أنتم تشرحون الآن، ولكنهم قالوا لي أن هذا حقّه، وأن هذا الأمر عاديّ وشائع، فقبلت، ورضيت.

عندما قتل الجيش زوجي، اغتصبني ذلك العسكريّ وزملاؤه، ولكنهم قالوا لي أنهم ينتقمون من زوجي، وهذا حقهم المشروع، فسكت أيضاً ورضيت.

وعندما جاء أولئك الهمج الملتحين إلى قريتنا، اغتصبني ذلك المسخ القصير ورديّ اللون، ولكنهم قالوا أنّنا سبايا وأن الله قد أذِنَ لهم بذلك، فسكت كما سكت الكلّ، ورضينا.

إذا لم يكن هذا إغتصاباً لأننا رضينا، فما هو الإغتصاب إذاً ؟

بعدها، سلّمتُ نفسي للمُهرّب، الذي أنكر ذات صباح أنني قد أنقدته شيئاً ليوصلني إلى البر الثاني، ففهمتُ أنه يُريد تحلية، فاغتصبني، مرّتين، وانا كنتُ راضية جداً.

في الجزيرة اليونانية أيضاً، وما بعدها، وإلى ان وصلتُ إلى هنا، كنتُ راضيةً ولم أشتك، فلمن أشتكي، ولماذا ؟

ما عاد هذا الأمر يُدعى إغتصاباً على ما يبدو، فأنا أعرف من يُقدّمن أنفسهن على الحواجز ليعبرن بأمان، وفي المخيم ليحصلن على الخبز، وفي المستوصفات ليحصلن على دواء، هُنّ يفعلن ذلك برضاهنّ، وإلا فمن السهل جداً أن تموت إحداهن على الحاجز، أو من الجوع ، أو من المرض وقسوة المرض، ثم سيتمّ اغتصابهنّ وهنّ جثثاً هامدةً ، فمالفرق؟ وهل هناك أيّ قيمة للرضا هنا أو محاسبة الذات ؟؟

عليكم أن تجدوا بدايةً تعريفاً جديداً للإغتصاب والمغتصبين، بحيث يشمل أولئك المسحوقين من أمثالنا، نحن الذين لا صوت لنا ولا سامع ولا قيمة، نحن الذين لسنا إلا مجرّد أرقام ، وهل هناك أيّ معنى لرضا الأرقام أو سخط الأرقام ؟

   


Post a Comment

أحدث أقدم