بقلم غلاء أنس
تتحدث إيفا إيلوز عن مفهوم المعاناة في كتابها "لماذا يجرح الحُب"، ومن منظور فلسفي، تقول بأنَّ المعاناة تكون أشدَّ وقعاً على النفس عندما يعجز صاحبها عن تفسيرها أو فهمها، أي عندما لا يجد لها مُبرراً، أو يفشل في موضعتها ضمن سياقٍ ملائم يفهمها فيه:
"عندما لا يُمكن تفسير المعاناة يصبح ألمنا مضاعفاً: من ناحية الألم الذي نعيشه من جهة، ومن عدم قدرتنا منح المعنى إليه من جهة أخرى. وبالتالي فإنَّ أي تجربة للمعاناة تشير دائماً إلى أنظمة التفسير التي يتم توزيعها لتعليلها"
ربما هذا ما دفع رورتي في "المتهكم الليبرالي" لتفسير الليبرالية بأنها رفض تبرير القسوة بجميع أشكالها، إنها انعدام الجاهزية والنية والاستعداد لتبرير أيَّة آلام أو معاناة، ذاك أن الوجود بحدِّ ذاته في هذا العالم يحمل ما يكفي من المعاناة، وانطلاقاً من اشتراكنا جميعاً فيها، يُمكننا إيجاد سبب قوي لتضامننا سوية، لا تعاطفنا مع بعضنا، بل تضامننا انطلاقاً من اشتراكنا في المعاناة.
لا أعرف إن كانت مقولة رورتي قوية بما يكفي، ولا أعرف إن كانت حجته ستصمد أمام بعض المظاهر الإنسانية المنحرفة، ولكنَّني أعود إلى إيفا وأتساءل معها، عن هذا الكائن المعذَّب الذي يفشل في تبرير ألمه، فيزيده ذلك بؤساً.
هناك بالطبع معاناة ضرورية بحكم الطبيعة، وهناك معاناة أخرى يحكم بها الإنسان قصداً، لرؤى وتخيلات تصيبه، وفي حين تمكن الإنسان عبر العصور من تبرير الأولى، فإنه لأجل فهم الثانية وضع علم الاجتماع وعلم النفس وبحث في مختلف العلوم التي تتناول الدماغ ونشاطه وتسييره للفرد، ولكنه كان يخرج بنظريات عديدة تشرح السلوك والدافع والبيئة والظروف، من دون أن يتوصل إلى حاجزٍ متين يوقف هذه العجلة المُميتة، يوقف سيل التبريرات والشروحات.
بعبارة أخرى، قد لا نحتاج إلى شرح الألم وموضعته سياقه بقدر ما نحتاج أن نصدَّه عنَّا، يجب أن نفهم أولاً أن ما نعدَّه "أضراراً جانبية"، بمفهوم زيجمونت باومان، ليست بالأضرار وليست بالجانبية وليست بالحتمية، بل شرورٌ نخلقها باستمرار لتبرير شرورٍ أكبر، يعني هذا أنَّ حتى الفعل الأخلاقي اليوم يقوم بدوره في خدمة الشر، سواءً في الثمن الذي دفع لتحقيقه، أو في الدور الذي سيلعبه لاحقاً في رسم صورة جديدة للمعاناة الإنسانية.
وهذا كلُّه، يتخذ منحى آخر إن فهمناه عَرَضاً من أعراض الذكورية المُفرطة، يبدو أنَّ لا مفرَّ لنا من علم الاجتماع.
إرسال تعليق