ثلاث مستويات لتناول الضحك


 

 الكاتبة غلاء أنس

مُستمتعة في قراءة "الضحك: أنثربولوجيا الإنسان الضاحك" لدافيد لوبروتون"، وتلفتني بعض المُشتركات بين هذه الكتب الثلاث.

ففي رواية اسم الوردة، يقول غوليالمو كلماته الأخيرة للراوي الشاب:

"احترس يا أدسو من الأنبياء، ومن أولئك المُستعدين للموت من أجل الحقيقة لأنهم يجرون معهم عادة إلى الموت كثيرين آخرين، يموتون غالباً قبلهم وأحياناً عوضاً عنهم .. كان يورج يخشى الكتاب الثاني لأرسطو، ربما لأنه كان يعلمنا كيف نمسخ وجه كل حقيقة، حتى لا نصبح عبيد أوهامنا. ربما كان واجب من يريد الخير للبشرية هو أن يجعلها تضحك من الحقيقة, ’أن تُضحِك الحقيقة‘، لأن الحقيقة الوحيدة هي أن نتعلم كيف نتحرر من شغفنا المُنحرف بالحقيقة".

ولعلَّ طول الرواية والمقاطع الكثير المُملة فيها، لمن لا يحب الخوض في التفاصيل التاريخية المسيحية، ستُنسى تماماً عند هذه العبارات الأخيرة، والتي يفكر بها القارئ ملياً بعد رحلته الطويلة مع الكتاب وتصابره عليه، فهي تستدعي في فكره بعض الأسئلة المُهمة، ويحاول قراءة الرواية في عقله من جديد في ضوء هذه الأسئلة.

أن نضحك من الحقيقة، بل أن نُضحك الحقيقة ..

ومن ثم يتناول باسكال مرسييه في "قطار الليل إلى لشبونة" لمحة لافتة عن الضحك، في قالب أدبي مثير للمتعة والسؤال، بعدِّه الغراء الذي يجمع البشر سوية، والضامن لحميمية ما تُخلق في مشاركة الضحك: 

"منذ وقتٍ طويل لم يعد سبب الضحك أمراً مُهماً، وحده الضحك في حد ذاته مُهم. بدا ذلك شبيهاً برحلة في قطار نريد ألا تنتهي هزَّاته على السكك الحديدية، هزَّاته الشبيهة بضجيج مليء بالأمان وبالمستقبل"

وبعد بضعة فقرات يقول: "وها قد ضحكا معاً مدة دقائق. وجاء ضحكهما شبيهاً باتصالٍ خفيف، اتصال محلِّق وهش، تماس جسدي كان يتراءى له في السابق حركة ثقيلة بل حتى سخيفة. قرأ في الماضي مقالاً بإحدى الصحف عن رجل شرطة أفلت لصَّاً خلال عملية نقله. ’لقد ضحكنا معاً، لذا لم أستطع حبسه. ببساطة، أصبح الأمر مستحيلاً‘. قال رجل الشرطة معتذراً".

إنها النظرة الجمالية للضحك، في مقابل التفلسف فيه وبشأنه، وحمله إلى المستوى الفلسفي بربطه بالتهكم العَرَضي والموقف الخفيف تجاه الحياة، خفة كونديرا في العلاقات.

أما في الكتاب الذي أقرأه، فهو ببساطة يرى الضحك انفلات المرء من نفسه، وتمرد على الضوابط المجتمعية، والنافذة التي تسمح له الأنا العليا للأنا ولكن تحت سيطرة النظام، إنه استسلام لحركة الجسد بعيداً عن الفكر، وعودة إلى الطبع الإنساني تحت القناع الذي تفلسف حوله غوفمان، وفي شرحه تناول الإنسان عبر العصور لهذا الفعل، فإنه يمرُّ بالعديد من الثقافات والرؤى، ويثبت كيف يمكن للإنسان التقلب في رأيه استناداً إلى سلطة الوسط الاجتماعي، أو سلطة النظام الحاكم، كالدين.

"والضحك انفلاتٌ مؤقت للذات واستسلام للحظة وتخفيف من المراقبة، بحيث أنه يقطع الكلام ويفيض على الصوت. غير أنه لا يكفَّ عن التجذر في دلالة معينة. إنه ليس سوى فرقعة واضطراب عابر يحرِّر لبرهة متطلبات الهوية كما يُحرر الفرد من بروتوكولات معينة .. إنه يضمن انتصاراً موقتاً للجسد ويحيل الكلام إلى فُواق. وبما أنه يصدر عن وجهٍ يصفه أعداء الضحك بأنه متشنج ومشوهَّه، فهو يبدِّد جديته وطابعه المقدس"

ثلاث مستويات جديرة بالاهتمام لتناول مسألة الضحك، مستوى فلسفي يريد توظيف الضحك للعودة إلى الإنسان الضاحك، المتهكم، الذي يبني ويتوجه إلى نفسه، بلا ميتافيزيقيا تصلِّبه، ومستوى أدبي جمالي يحيل إلى العلاقات الإنسانية وسهولة بنائها بقدرٍ بسيط من العفوية والتلقائية، ومستوى أنثروبولوجي يراقب الإنسان المُراقب لذاته، ويسجل طرافته عبر العصور حتى بات يصفه، لا بالإنسان الضاحك، بل بالإنسان المُضحك، وذلك في إطار تمثلاته الطريفة مع نفسه والآخرين.

تكاد تكون القراءة في المستويات الثلاث أجمل ما يمكن للمرء إهداء نفسه.


Post a Comment

أحدث أقدم