بقلم غلاء أنس
" يا سيد البرامكي، كما أتمنى لو كان الأمر بهذه البساطة، ولكنه للأسف ليس كذلك .. صحيح أنك كسبت قضية إخلاء الشخص اليهودي الذي سكن بيتك، ولكن هذا لا يعني، تلقائياً، أن بإمكانك الانتقال إلى بيتك والسكن فيه ببساطة .. سيد برامكي، أهنئك على حفاظك على كل هذه الوثائق والصور والرسومات المشوقة لبيتك التي احتفظتَ بها طوال هذه السنوات، وكذلك مفاتيح البيت، ولكن أخشى أن هناك حيثية صغيرة مهمة قد غابت عنك كما يبدو .. وهي أنك من الغائبين"
"غائب؟" (..)
"نعم، بنظر القانون أنت غائب، وتباعاً أصبح بيتك من أملاك الغائبين"، وتجنب القاضي النظر إلى أنضوني مدركاً مدة إشكالية ما تفوه به للتو.
"غائب؟ غائب؟ ماذا تعني غائب؟"، ظل أنضوني يردد حتى قاطعه القاضي مُصححاً: "من الغائبين"
"من الغائبين؟ كيف من الغائبين وأنا هنا أمامك يا سعادة القاضي؟" (..)
"أنت في نظر القانون الإسرائيلي مالك عقار من أملاك الغائبين"
"ولكن يا سيدي القاضي، في هذه القضية، قضيتي، وكما ترى جلياً، لا أنا ولا بيتي الذي أخليتم شاغله غائبان"
"سيد برامكي، أنا أتفهم مدى خيبتك، ولكن كما شرحت لك ولمحاميك، وأعيد وأكرر، أنت في نظر القانون الإسرائيلي غائب، وبيتك من أملاك الغائبين. وليس بوسعي فعل أي شيء حيال هذه الحقيقة"
"عن جد! أنا غائب! وهكذا أصبح بيتي أملاك غائبين!"، ردَّد أنضوني مذهولاً.
أحس القاضي بالغضب الذي يعتمل في صدر أنضوني، فأضاف موضحاً: "ليس الأمر شخصياً، سيد برامكي، هناك مئات الآلاف من العرب، سواء كانوا حاضرين أم غائبين، يعتبرون غائبين، مثلك تماماً، فجميع اللاجئين الفلسطينيين، سواءٌ كانوا حاضرين أم غائبين، يُعتبرون غائبين"
"سيدي القاضي، الفلسطينيون ’غائبون‘ لأنكم لا تسمحوا لهم أن يكونوا حاضرين، أما الحاضرين منا فيعتبرون غائبين، وهكذا لا يمكننا أبداً أن نكسب"
"صحيح، بعضكم حاضر بشخصه هنا"
"ما تسميه ’بعضكم‘ سيدي القاضي يبلغ عددهم مئات الآلاف إن لم يكن ملايين!"
"أجل، أعلم ذلك، مع كل الاحترام، المسألة ليست شخصية، يا باش مهندس"
بسط أنضوني راحتيه الكبيرتين وقبضهما، ومدَّ أصابعه العشرة الطويلة، وأخذ يربت على جسده، وكأنه يطمئن نفسه بأنه حاضر ومحسوب. ثم بدأ يلطم بها صدره أسرع فأسرع، وأقوى فأقوى، ثم انتقل بها إلى بطنه فأعلى فخذيه، وهو يردد على إيقاع اللطمة الثلاثية على جسده بأصابعه:
"غا – ئب، غا – ئب، غا – ئب!"
"وقال القاضي: "في الواقع، في هذه القضية أنت حاضر وغائب في آنٍ معاً. وأنت تنتمي لفئة ’الغائبين الحاضرين‘" (..)
"هل هذه مسألة فلسفية وجودية، سيدي القاضي؟"، ورغم أن أنضوني كان يعلم تماماً أن فئة "الغائبين الحاضرين" هي وضعية قانونية أضفتها إسرائيل على الفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم بعد حرب عام 1948، فإنه لم يستطع أن يستوعب كيف يمكن أن يظل في عداد "الغائبين" على الرغم من مثوله أمام القاضي. (..)
"لا سيد برامكي، المسألة ليست فلسفية، بل هو القانون، القانون الإسرائيلي" (..)
"سيدي القاضي، أنا من القدس، ولدت في القدس، كما أبي وجدي وجد جدي، نشأت في القدس، وأنا أعيش في القدس، وأعمل في القدس، وتزوجت في القدس، وأنشأت أسرتي في القدس، وبنيت المباني والبيوت العديدة في القدس .. في القدس.."
وبما أن القاضي كان قد سمع هذه الحجة مراراً وتكراراً، أحس بالملل وأخذ بالتثاؤب، وحين أدرك أنضوني أنه ليس للحقائق التاريخية أي مكانة في ضمائر القضاة الإسرائيليين، لجأ إلى المنطق.
"سعادة القاضي، لماذا عندما يتعلق الأمر بدفع الضرائب للحكومة الإسرائيلية لا تعتبرونا غائبين، أما حين يتعلق الأمر باستعادة أملاكنا تعتبرونا وقتها غائبين؟ فلم يخبرني أحدهم أنني غائب وعليه لا يتوجب أن أدفع الأرنونا" (..)
"سيد برامكي، هذا هو القانون"
"أي قانون؟ أي قانون سيدي القاضي؟"، وبدأ اليأس يدب في قلب أنضوني.
"أي قانون! القانون الإسرائيلي طبعاً"
"إذا كان القانون الإسرائيلي يحكم بأنني غائب بينما أنا واقف بين يديك يا سعادة القاضي، فماذا تقولون سعادتكم في هذا الشأن؟"
أجاب القاضي: "أنا هنا لأطبق القانون"
فسأل أنضوني: "ومن وضع هذا القانون، سيدي القاضي"، فأجاب القاضي: "الحكومة"
"سيدي القاضي، هل ترى بشراً أمامك؟ أم أنك تسمع صوت شبح؟"
فأجاب القاضي محتداً: "وهل تعتقد أنني أعمى؟ الدعوى مرفوضة"، وفجأة وقف، وغادر الغرفة وأغلق الباب وراءه.
(..)
وقف أنضوني في بهو المحكمة يحدق فيمن حوله ممن جاؤوا يلتمسون العدالة الإسرائيلية.
وتحولت ابتسامته سريعاً إلى ضحكة
وتحولت ضحكته إلى قهقهة
وما عاد قادراً أن يكبح ضحكته
في البداية لفَّ حول نفسه ضاحكاً
ثم انطوى على نفسه
ممسكاً ببطنه
وسرعان ما أخذ يتقلب على الأرض، وانقلب على ظهره، وقدماه مرفوعتان تركلان الهواء.
وملأت ضحكاته الكون
وظل يضحك ويضحك ويضحك
حتى فتر ضحكه
ثم خيَّم الصمت
وأمعن الصمت حتى
ساد السكون
سكون مُميت وصمت مطبق
غولدا نامت هنا – سعاد العامري
غولدا هي رئيسة الوزراء الإسرائيلية سابقاً، والاقتباس السابق يحكي سرقتها البيت الفلسطيني "فيلا هارون الرشيد" وسكنها فيه.
يتناول الكتاب مجموعة من قصص "الغائبين" الفلسطينيين الذين اضطروا بقوة السلاح الإسرائيلي وقوانين الدولة المجحفة مغادرة أملاكهم وأراضيهم في القدس، لتصدر الدولة قانوناً يحجز أملاكهم بحجة غيابهم ويتصرف بها، ورغم وجود الفلسطينيين "الغائبين الحاضرين" في القدس الشرقية إلا أن القانون محاهم ببساطة من الوجود ونزع عنهم أملاكهم، ليروا بيوتهم أمامهم يسكنها الأغراب ويتصرفون بها كما يشاؤون.
إرسال تعليق