تلك الليلة



 الكاتبة  حياة الحكي

 طاولتي مكتظة بالكتبِ، أتمعن عناوينها وأنا جالسة على كرسي الهزاز المصنوع من خشب الخيزران، رأسي متكأ بحافة ظهره ويداي موضوعتان على أطرافه متدليتان مثل منديل أبيض رخو ..

تذكرت كلام أبي عن وصف الكتاب قائلاً :الكتاب بحر العلم الواسع، والصديق الدائم والوفي، لكل من ينهل من نبعه الغزير المعطاء، تلك الكلمات ما تزال محفورة في ذاكرتي إلى الآن..

أقلامي مبعثرة حول الكتب وكأنها العاب صغيرة ..

وللحظة خُيّل ألي بأن هنالك قلم شفاف لا تستطيع العين أن تراه، ولا تقدر اليد أن تمسكه أو حتى تلمسه.

أطلقت عليه " قلم الخيال"  الذي يبحر بنا في العوالم الشاسعة ويحلق بأحلامنا إلى حيث لا ندري ولا نعلم كيف نعود ..

ملتُ برأسي بحركة متثاقلة نحو نافذة غرفتي الصغيرة ..

فلاطفني النسمات الهاربة من البحر البعيد قاصدة الدخول لتتلاعب بأوراقي المتراكمة، وتعبر بين أوراق نبات " الحبق " لينتشر عبقها في فضاء الغرفة.

وتلامس خدي وتداعب خصلات شعري  فتنعشني وتعطيني شعورا بالأمل وبأنني بأفضل حال .

مابين الهواء العليل، والكتب المصفوفة على طاولتي المستديرة ..

أوراق تتراقص مع نسمات الهواء وحروفي الموجودة داخلها تشاركها الرقص أيضا ..

يشتد الريح قليلا ..وتبدأ بعض الصفحات بالطيران معلنة الهجرة إلى مكان آخر..

ورقة مكثت في زاوية، وأخرى على رف موجود على حائط غرفتي ..

بعضها استلقى على أرضيةٍ خشبية معلنة بذلك تحرر كلماتها من حبر أقلامي..

في هذا الوقت بالذات، بدت الكلمات وكأنها فراشات ناطقة..

وتمثل الواقع الحقيقي..

تأتي إلي كلمة لتهمس في أذني: أتذكرين أول دمعة نزلت من عيناك؟.

 أنها أنا ومازلت أبحر بالدمع المالح ..

وتتقدم الثانية بكل غرور قائلة:أنا المتمردة لقد كسرتِ قلمك عدة مرات من شدة غضبك، ومازلتُ داخل ثوراتك المشتعلة لا تنطفئين أبدا…

 يتطفل الحزن متحدثا بصوته الباكي الذي يأخذنا بذكرياتنا التي قد تناسيناها وجروحاً رممناها ..

وغير ذلك الكثير، من الآه والألم الذي لملم أوجاعه، مختبئاً خلف قلوبنا المحطمة.

في وسط البكاء أسمع صوت ضحكة جذابة أثلجت صدري بسماعها ..

فنزلت عن الكرسي الذي أجلس عليه، وتركته يهتز لوحده..

وضعت كف يدي على الطاولة محاولةٌ الاستناد، وبدأت بالنقر  بأظافري الطويلة الملونة بلون أحمر جذاب وجميل..

فصدر صوت لمقطوعة موسيقية، تدربت عليها طويلا في طفولتي .

فتأتيني البسمة من رفٍ مصفوف بغرفتي، وتقبلني على خدي فتضحكني .

وتقول لي أنا البسمة الموجودة بكل مكان هربت من الحزن، لأرسم على شفاهك بسمة رقيقة ..

كم أسعدتني كلماتها حتى أصبحت غرفتي مضيئة بنور حروفي مثل الشموع في المعابد القديمة.

حلقت الحروف حول خصري كنبات الكرمة المتسلق.

 وجعلتني أتمايل معها بجسدي النحيل بكل خفة ولين..

 أطير معها سعيدة، كعصفور صغير يجرب طيرانه الأول ..

متحررة من جاذبية الأشياء والذكريات.

 وكأنني بالسماء ألامس نجوم الليل كي تتلألأ مع حروفي أكثر فأكثر..

أغمضت عيناي  كي أعيش اللحظة بكل صدق ..

وشعرت بأنني غيمة بيضاء بتلك الليلة العجيبة..

يأتيني شعاعٌ من قوته أجبرني على فتح عيناي فيحتضنني، ويغمرني، ويعانقني، ويدخل قلبي ويجعله ينبض بقوة كبيرة..

ويهمس لي همساً أنا الحب ..

هربتُ من صفحاتك منذ زمن بعيد ..

وعندما شاهدتك تطيرين كالفراشة في سمائي.

أتيتُ إليك من بين الأسطر المنسية، وفي اللحظة التي بدأت فيها النسمات الهاربة من البحر  تدغدغ أحلامك الجميلة، و تتلاعب بأوراقك المتناثرة في أرجاء الغرفة .

Post a Comment

أحدث أقدم