بقلم: غدير حميدان الزبون /فلسطين
"أشكو إليكَ تسلُّط اسمي علَيَّ" قالها جدّي وغادر إلى الأبد.
-ما الذي فعله ليحمل لعنة الاسم والمسمّى؟
-لا أدري، ولكنْ لم تره عيني قطّ منذ أنْ غادر كوخ قريته متأبّطًا مفتاحه وكومة من القمح.
لم يسأله أحدٌ إنْ كانت أربعة أحرف يُكرَّر في تتابعها الحرف الأول مرتين، وتحمل في طياتها سيوف العرب، وثورة اللاجئين، وفضيلة الصبر والتبسّم، ومعجزة الكلام، وإحراق القديم جميعه، والشجاعة الكافية لأنْ يطرح الأمي نفسه معلمًا للقوم، والشجاعة الكافية لاختيار الموت على الخلود إدراكًا من المخَيَّرِ أنّ الموت شرط الخلود الوحيد...
-ألم يسأله أحد إنْ كان هذا الحمل الثقيل مناسبًا له... تمامًا كالمُسمَّى به أولًا؟!
-سألته فقط عن سرّ انعكاس صورته على غير الحقيقة فضحّ من نفسه ورمى بالمرآة بعيدًا عنه.
-لا، لم تكن مرآة في الأصل، كانت قطعة غير منتظمة الشكل من زجاجِ ما كانت مِرآةً يومًا لكنّها انكسرت...
-الأهمّ من هذا وذاك، كيف له أنْ يحلق لحيته بعد ذلك الحادث؟
-يحلق لحيته تحت الشمس.
انعكاس الضوء من على سطح الزجاج يعاكس جدّتي في الشرفة المقابلة تمسك كوبًا من الشاي الثقيل بالنعناع، وقطعة كعك جافّة، وكتابًا عليه صورة (محمود درويش) بنظاراته الكبيرة وشعره غير المرتب، يفكر في جدوى الانتصارات الصغيرة إنْ كانت الحياة تأخذ بشمالها دفعة واحدة ما أعطته باليمين ببطء!
ويفكر جدّي: هذا المكان ضيق على جناحي، أنّى للاجىء مثلي أن يُحلّق خارج رسم الحدود، وعلى صدره صخرة صمّاء تمنعه أن يتنفس، وعلى روحه أن تثور على لعنة الاسم والمسمّى.
يحوّل وجهه قليلا ليحتمي من انعكاس الضوء من مرآة جاره الفضولي العابر، فينكسر الشعاع على نظارات (درويش) ويعبر نحو الرصيف المقابل كيما يعطل سير فراشة تعبر الشارع وتتقي الشمس بحقيبة جلدية سوداء صغيرة.
قال العابر لجدّي بأنه آمن معها، وكذلك قال العابرون لمن قُصِفوا في (المواصي) قبل أيام بأنهم آمنون و بأنّهم ناجون وأقسموا بسلطة الاسم والمسمّى الجديد!
-ماذا تقصد بالاسم الجديد؟
-الاسم الجديد هو تلك اللعنة المكذوبة التي أطلقها كل امرئٍ على نفسه هي تعريف لوظيفته الأساسية في الحياة بعد أنْ ينجو لمرات ومرات من الموت، لعلّه يمتلك خطة مليئة بالأفكار والتطلعات بعيداً عن العبث واللا معنى بعيدًا عن صرخة الميلاد الأولى ليمضي قُدماً…
-يا لخيام النازحين ورؤوس الأطفال ورائحة "النَّطاعة" الشيطانيّة التي تملأ جو الحدود...
-"أشكو إليك تسلط أسماء الراحلين عليّ" قالتها جدّتي وأمّي بعدها قبل أن ترحلا…
-أيها الغائب الباقي، كمفتاح بيت هدَّه القصف، أو كعطر يحرك شيئًا في الذاكرة؛ ليس العطر شيئًا في ذاته، وليس ما يحركه سوى وهم قديم حدث ولم يحدث.
-لكنهما معًا -العطر والذكرى- يشكِّلان شيئًا ما، نَصَّا مجسَّدًا ونابضًا بالحياة ربما…
-قلتُ مرة لصديق: سنكون معًا لكلّ شيء من أجله نكون معًا، ونكون معًا لا لشيء إلاّ لأنّ الطريق أطول من أنْ يقطعه المرء وحده، على الأقلّ أحمل سلطة الاسم والمسمّى.
-أكره المرايا كما كرهها جدّي، لكنّي أحبّ كومة القمح.
وهذا الطريق أيضًا طويل وموحش، فإنْ كان السير فيه -كما أظن- قدريًّا ومدفوعًا بهذا الزَّخم الغيبي المُغلَّف بثقل الأسماء وضبابية التكليف، فإنَّه جدير بمن سار فيه أنْ يكون أقدر من سواه على عدم الاستسلام ونيل ما يريد...
إرسال تعليق