المُوشحات، فَنٌ أَندلسِيٌّ لم يمت



الكاتبة ضحى المصري 


للأَندلس تَاريخٌ عريقٌ أدى إلى نشوءِ طَريقٍ جديدٍ بِالحياةِ وَأساليبها، وتعدى ذلكَ إِلى الأدبِ الجامدِ الموزون، فاختلفت أَنواعهُ وَتجددتْ تزامنًا للبيئة الاجتماعيةِ المليئة بِالترفِ واللهو وَالخَارجة عَن التَاريخِ العربيّ المأَلوف بِحفاظهِ وشِدته وَلا سِيما بِالشعرِ والأَدبِ، فِمن المظاهرِ التي تَميزتْ بِها الأَندلس ظُهورُ المُوشحات؛ وَهي شَكلٌ جَديد للشعِر، إِذ لَا يلتزمُ بِالقافية المَوزونة، وَارتبطَ بِشكلٍ كبيرٍ بالموسيقى وَالغناء وَ والالتزام بقواعد معينة؛ كاستخدامه للغة الدارجة أو اللغة الأعجميّة.


وفي تَسميتها اللُغوية إٍشارةٌ إلى التجديدِ الذي حصلَ على اللغة، إِذ تُعْرَّف لُغويًا "أنّها كلام منظوم على وزن مخصوص"، واشتق هذا المصطلح مِن الوشاحِ، وَهو رداءٌ شَرِقيٌّ امتاز بِزركشتهِ المُلفتة وَالمليئة بِالتفاصيل الجميلة التي تزيد الزَخارِف والجواهر جَماليتها، وَنشتقُ مِن هذا الجمال إِشارةٌ مَلحوظةٌ تُنوهُ إِلى مدى التشابه بينَ المُوشحاتِ والوشاح، مِن شكلٍ خارجي ومضمونٍ دَاخٍليّ. 



وَلم تكن نشأة هذا الشكل الأدبي الجديد إِلا لِأسبابٍ واضحة؛ كَان أولها النَهضة الشكلية التي لازمت الأَندلس مُنذ بداية الفتح، فَلم تكن ساحاتها للعربِ فحسب بَل اختلط الاسبان بِالعربِ وَنتجَ عن هذا الاحتكاك امتزاجٌ لُغويّ، تمثّل في معرفةِ الشعب الأندلسي العديد مِن اللغات كَاللغة اللاتينية بِالإضافة إِلى البراعة الثابتة الغير المُنفكة عن أفرادِ الأندلس فِي اللغة العربية الفصحى، لِذلك كانت تُنتظم بِها الموشحات في البداية إِلا أنها بِالنهاية كانت تنظم بالعاميّة الأندلسيّة، وهي عاميّة العربيّة التي كانت تستخدم ألفاظاً من العاميّة اللاتينية لِيُبتكرَ مصطلحٌ جديد يُدعى " الخرجة "، وكان ذلكَ نتيجة اختلاط الطبقات الاجتماعية ببِعضها البعض

فَأسفر ذلك إِلى اللجوء الى لغةٍ سهلةٍ بسيطة خالية من التعقيدِ، وَهذه الرِقة حَولت الأَدب إٍلى وسيلةٍ جديدةٍ تُناسبُ المجالس الأَندلسية وَعراقتها، فَأصبحتْ الموشحات نوع من الغناء الجماعِيّ في الطُرقِ والأسواقِ. 



وَكان لا بد للإِشارة إِلى الطبيعة الساحرة التي عُرِفت بها أرض الأندلس، إذ ساهم ذلك إِلى خَصبِ عقولِ الأَندلسيين وَجعل صدورهم كَالربيع التي زرعت الرقة وَاللهفة وَالعذوبة في تَصويرهم والسعة في خيالهم، فاختلف الوزن الأدبي الجامد لتتقدم عليّه الصور البديعيّة والألفاظ الساحرة والعبارات المليئة بِالنغم الموسيقي الجَذاب، لذلك يُمكن القول أَن الطبيعة آنذاك هي العامل الأولِ للتحول وَالتجديد وَالتغيير



وَلكلِ فن جديد بَداية، وَلا يمكن القول أَن نهاية الأشياءِ كبداياتها، فحال الموشحات كحال أي فنٍ من الفنونِ في بداية عهده، فَكانت بسيطة التراكيب جَامعة بين المقام الأندلسيّ والألفاظ السهلة، وتركزت في بداياتها على مواضيع معينة: كوصف الطبيعة والغزل. 



وكان لا بد من الموشحات أن تتخذ مسارًا آخرا بالنضوج، وقد تطورت الموشحات في القرن الحادي عشر الميلادي تزامنا مع حكم ملوك الطوائف، ثم تبعها تطورٌ جديد أَدى إِلى نشوء شعر الزجل، لينتج عن ذلك لونين من الشّعر الأندلسي: لون الموشّحات، إذ كانت تكتب باللّغة الفصحى الخالصة، ولون شعر الأزجال وكُتِب باللّهجة العاميّة، ولم ينحصر هذا الجمال في حدود الأندلس بل توسع ليصل الى الشرق العربي كافة، ويتأثر به شعراء جنوب فرنسا المسمّون بـ"التروبادور" وشعراء الإسبان الغنائيّون.



وعلى الرغم من المواضيع المختلفة التي تناولتها الموشحات إِلا أَنها كانت مرآة تعكسُ حجم الكارثة التي لحقت بالأندلس حين سقوطها، فمن الموشحات التي تعبر عن لهفة الحبيب وشوقه إِلى نغمةِ الألم التي رافقت الكلمات للتعبيرِ عن حجم الآسى والحسرة عما حل بالأندلس ومدنها؛ ومن اشهر الموشحات التي كتبت وغنت ما ألفه لسان الدين بن الخطيب في مطلع جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس.




الموشحات الأَندلسية لَم تكن فنًا جديدًا فحسب، بل إنما هي مرآةٌ للزمن الأندلسي آنذاك.

Post a Comment

أحدث أقدم