وداع

   


الكاتبة حياة الحكي

  بدأت علامات الشيخوخة بالظهور.

غزا بياض الثلج شعر رأسي، وحفرت التجاعيد جغرافيا وجهي بعمق السنين الطويلة، ثقل الأيام وحصاد العمر زاد من انحناء ظهري . 

حدثت مرآتي متسائلة :  كيف حالك اليوم أأنت بخير؟؟.

قبل خروجي من المنزل أمسكت عكازي المصنوع من شجر السنديان الصلب، قاصدتاً شجرة البلوط الهرمة أقضي بفيئها نهاري، ترافقني قطتي الصغيرة البيضاء لتؤنس وحدتي وتملأ بعض الفراغ الذي يغمرني بقسوة .

الطريق جميل على طرفيه تنمو الأعشاب البرية والأزهار الملونة .

بعض الرعاة ينطلقون بقطعانهم في البراري الشاسعة، وأصوات نباح كلابهم يختلط مع الصفير المتقطع وفوضى أصوات القطعان . 

كنت على وشك الوصول لمكاني المفضل حيث ظل شجرتي، أجلس تحتها وأتمدد على الأرض المليئة بالأوراق اليابسة التي تراكمت عبر السنين الطويلة، لتتحول الطبقات العميقة منها إلى تراب بني قاتم  يحوي عوالم من الحشرات الصغيرة ومستعمرات النمل الأحمر . 

البعض من مرتادي ظل الشجرة العملاقة جهزوا مقاعد من حجارة كبيرة، ولكنها غير مريحة . 

وضعت عكازي جانباً ..وتمددت في مكاني المعتاد .

غفوت في الظل الناعم، والنسيم اللطيف، والهدوء المريح، الذي تخترقه أحيانا تغريد العصافير، واللهو الدائم للسناجب بين أغصان الشجرة.

 كنت أحادثها واشكي لها كل مواجعي، وأغني لها مواويل حزينة عن الغربة والوحدة، فهي مثلي وحيدة وقد نجت بصعوبة من رعب المنشار، حين حاولوا قطعها ضممت جذعها ولم أتركها وبكيت كثيراً حينها .

حتى استسلموا لعنادي وغادروا .

شجرتي الملاذ الآمن لروحي المتعبة .

لم يتبق لي الكثير حتى أرحل من هذا العالم.

كانت قطتي تلهو بجواري وتحاول صيد العصافير، وحين تمل وتتعب تعود خائبة لتنام بحضني .

- كفاك عبثاً ولعباً ..

- أريد النوم الآن لا توقظيني.

 تمددت بجسدي الهزيل والمريض .

تأملت بما تبقى في عيناي من بصر السماء التي تحجبها أوراق الشجر، وخيوط الشمس تخترقها كشلالات  من نور تشبه النجوم المتلألئة ..

حلقت بنومي نحو حلم جميل..

وإذ بطفلة جميلة الوجه، تأتي نحوي راكضة تحتضنني وتقول لي بلهفة الشوق:  اشتقت إليك يا أمي ..

انهمرت من عيناي قطرات الدمع لتسيل بسخاء بين أخاديد وجهي.

حين نطق ثغرها الوردي (أمي) مدت يداها الصغيرتان الرقيقتان الناعمتان محاولة مسح دموعي، وتهمس لي لا تبكي أرجوك فهذا يحزنني..

قلت لها بابتسامة الشروق الأول لحياتي : هل أنت أبنتي حقا ..

فردت قائلة : نعم... نعم ..

ألديك شك بذلك..

غرق قلبي بسعادة وكاد أن يقف من هول الفرحة بما قد سمع  ..

أمسكتني الطفلة بيدي محاولة منها أن أنهض من نومي الثقيل، كانت تريد مني أن أرحل معها إلى مكان جميل يشبه الجنان .

مددت يدي لأمسك بصديقي العكاز،لكن الطفلة قد مسكته ورمته بعيداً  وقالت : لن تحتاجيه بعد الآن تستطيعين المشي أكثر مني ..

وثقت بها  وسرت معها وكأنني شابة قوية وبكامل صحتها ..

أحسست بانعدام وزني وكأنني أحلق بلطف وبخفة .

بدأت ابتعد ابتعد .

ودعت وللمرة الأخيرة شجرة البلوط العتيقة، التي كانت تلوح لي بأغصانها مع الريح النشطة .

وقطتي المشاغبة التي ما تزال تلهو وراء فراشة لتعود كعادتها تبحث عن حضني.

كان جسدي يغرق بأوراق البلوط التي تتساقط بغزارة، لتغمرني مع عكازي الوفي الذي رافقني لسنوات .

لم يبق لي من الدنيا الحزينة شيء ..

رحلت من نومي الثقيل المتعب إلى حلمي الجميل ..

حيث قالت لي طفلتي قبل وداعي الأخير: أنت أمي .… 

Post a Comment

أحدث أقدم