الكاتبة زينة العمراني
... إنه إنسان غلبان ، لا يؤذي أحدا ...
لم ينتقل خبر اختفائه ، إذا كان مسافرا على قارب في نهر يقطع الطرق الطويل.
ـ بعيدا
عاش " بلهونة" و انسلخت خمسة و عشرون سنة من عمره ، و لما بلغت الحياة مداها في التأزم العتيق و لم يعد يستطيع قضاء مآربه اللازمة ، فقد اعتاد ذلك منذ سنوات على شظف العيش و بؤس و شدائد الأيام ، و تحتويه خشبة الحاجز بين سرعة الزمن و أكوام المكان ، وتكاد ترهق الأبصار على طريق خفيفة يقطعها المنظر المهيب في خيال الوجل و الأمنيات الفاغرة .
ـ منذ زمن بعيد ...
يرسم شارة الأمل و يرتل الحديث و لطالما روى لنا على صيحاته منطلقة من عمق أعماقه ، و مازالت تنشد في صوت قوي خاشع و على شفتيه ابتسامة الطمأنينة و الرضا .
ينظر دائما إلى هذا المبنى من بعيد و قد صار وحيدا ، و رغم أن التحية قد نفذت تماما ...
الوقت عند منتصف النهار لما يعود الأطفال من مدرستهم ، و الأخرس " بلهونة" كما يلقبه الجميع من أهل الحي قد استراح قليلا من هرج و مرج و تحرّشات أولاد الحي المشاغبين الذين يلاحقونه بحركاتهم العفوية و الصبيانية ، و حينا يجتاح مآربهم يرفع رجله و يهرع مسرعا و قد يكون البول حصره ثم يلوذ بالفرار ، و الأطفال يجرون وراءه و ذاك يصفعه على ضهره مازحا ، و هذا يمسك من أذنيه ضاحكا ثم يسرع هاربا ...
ومع ذلك لم يكن يحقد عليهم ، بل إنه يحب شقاوتهم ، فهم أطفال صغار و أصدقاؤه الذين يراهم كل يوم حتما سيكبرون يوما و يكبر معهم ، ويصبحون رجالا و سيدركون معا معنى الحياة و التضحية التي لا يجود بها الزمان إلا قليلا .
و من حين لآخر فقط تعود الحياة أدراجها لتتخلص من الكآبة المتجهمة ، ففي المساء يكون " بلهونة" في المنفى المهجور بين القبور الخربة التي وجدت منذ وقت بعيد من أيام الاستعمار الروماني ، ويأخذ له مكان يحتجب عن الأحياء يسكنه في هدوء شديد لطالما يسمع صوت الأشباح آتية من لامكان ،تعزف له سنفونية الحب وتملأ كل فراغ المبنى ، و تقدم له الطعام و عندما يرغل الليل تغطيه بوشاح يرسل إليه الدفء الحنين، لا أحد يجزم على ذلك فلمكان رهيب جدا و لا يتخيله أحد كأنه مصلوب في وجه القدر، لكن "بلهونه" يحس أنه المكان الآمن لديه لا تخطوا عليه أقدام البشر و تتعطل فيه لغة الكلام ، ولا يفكر فيما هو خطأ أو صواب و يسمى منفى الموت لا أحد عاد من هناك و هو حيّ ،فهو البوابة المؤدية إلى الظلام و غياهب الموت و الجحيم ، طبعا بلهونة هو أحد المجانين لم
يحس يوما بما يحسه الآخرون فقط هو المكان الذي يبعث في نفسه أعظم السعادة ،وهكذا يحتجب مرة أخرى " بلهونة " عن الأحياء بازدراء محنق خلف أشجار حور جسيمة قاتمة ، تلمع من خلفها نظرات الفرح و الأمل بعدما انطفأت عليها عيون الناس ، و تنعكس عليها أشعة النور الهارب ، و تتسرب من خلاله مناظرها السحرية ، بل يُسَرُّ بإخفاء بشاعتها و يكون الفضاء ملاذا مجانيا لكل بائس و مجنون مقهور، دون دفع أي ثمن ولا حتى للقيام بضيافته المجازفة و قد باتت عبارة " بلهونة " على مسمع الجميع .
ومع ذلك ، فقد جاء الفجر وحدث انشقاق بين الليل و النهار و الأمس ، و قد اصطبغت الارادة على قلبه ، و فجأة يصل كسرعة البرق تاركا ذلك الزّمن و حلّق ذهنه إلى أبعد الحدود .
وبعد دقائق سمع صوت المفتاح و هو يدور في ثقبه ، صاحب المحل يثني عليه تحية صباحية .
ـ أهلا و سهلا .. أهلا .. أهلا
و لم يتمالك " بلهونة " نفسه مرة أخرى ، فضحا معا و كانا قد وصل إلى الكرسي و أمام الطاولة يروق نفسه بفنجان قهوة ساخنة تعيد الروح إلى جسده و البخار يتطلع إلى السماء مع قطعة من الحلوى.
طبعا وهو على يقين أن ضحكة سيد المحل خارجة من أمعائه الغليضة ليشفق عليه ، بعدما أخذ له مكانا ليس لائقا به ، و أوصى به خيرا إلى أن ينهي عمله و يرشقه ببعض النقود ، و يعود مرة أخرى .
كانت الحركة تضج الحي في هذا الصباح الأطفال يأخذون أدراجهم للإلتحاق بمقاعدهم الدراسية ، أما موظفون الحي يلتحقون مناصب عملهم يرتدون لباسهم اليومي الأنيق و "بلهونة " تلاحق نظراته مظهرهم الخارجي الذي يشبه الارستوقراطيون ، و بالمرة فإنها ليست محطة للفخر ، تبدو من بعيد ورقة رسمية لإعطاء الملكية صفة شرعية ، و يتساءل عما إذا كان قد يأكل و يلبس مثلهم و يحمل محفظة ، و لربما شأنه شأن مهترىء قبيح و في أقصى درجات الإملاق ، فإنهم لا يقاسمونه همومه .
كان المقهى يصخب بأصوات الزبائن المنتظمة ، إلا أن اجتاز السيد " جبار" المحل و هو أحد أثرياء الحي بجسده الضخم و قوة البُنية و طول قامته كعمود المبنى ، الذي علته رأس صلعاء ووجه ألمس يميل إلى الاحمرار مع بروز عينيه ، و هو يرتدي معطف عتيق و الحزام المرصع بالمسامير الذهبية يشد وسطه .
التفت إليه الرجال كأنهم يزكونه بالتحية الصباحية ، معتبرين أن من الواجب فعل ذلك بل كل الواجب ، و كل ما في الأمر أن الناس جميعا تطمع في ثرائه الصاخب الذي حلّ عليه من وحي حكاية غامضة و لا يدري أحد أين و متى .
"بلهونة" يا "بلهونة" لم يدرك ذلك تماما فما كان من النادر أن يقفه الأمور، كما يفهمها الجمهور المغمور في لذات الحياة الغارقة في الأسى و الارتياب و الغير المفهومة .
يصرخ السيد " جبار" :
ـ يا فتى هات لي قهوة و بسرعة.
ـ قهوة ... قهوة سادة طبعا يا سيدي .
ـ و بسرعة .
بسرعة دخل "بلهونة" بفنجان القهوة و إن كاد يضعها على الطاولة و يختلس نظراته لسيد "جبار" ، فزع باهت على ذلك الفنجان و صبها على ملابس بلهونة .
ـ و قال له :
ـ من أنت ؟
ـ و ماذا تفعل هنا أيها الغريب المسطول؟
ـ و بنظرة احتقار.
ابتسم "بلهونة" ابتسامة شوهاء و هو يعترف لنفسه أن مزيته يستغلونها للتسلي و الترفيه و الضحك و المرح ، على حساب وجهه الذي يتميز بسمة من مأساة عميقة ، و ما يلقي عليه من نظرة هالعة ، و كم استغرق " بلهونة " في صمت عميق ، بل أنه أحسّ بألم يعجز عن ترجمة كأنه الذبيح الصاعد ، و رأسه يتهزهز نحو الأسفل بنظرات مطبوعة الملاحق .
إلتفت السيد "جبار" إلى " بلهونة" و أمره بالمغادرة إلى الخارج و هزّه من كتفه.
قائلا :
ـ لم ينقصنا إلاّ هذا المقصوف و المجنون ، ومن يراك يحسبك رجل.
ـ هيّا أغرب من هنا.
انفجر الجميع في ضحكات تبعثر في كل جانب أصوات مقعرة ، و قد استخفه هذا المشهد، كما كان يودّه أن يصفع هدا المتجبّر ، وينتقم من براثنه المتغطرسة ، وعليهم أن يعلموا أنه ابن هذا الحي ليته صفعهم ، ليته فعل ذلك ...
"بلهونة" يعاني هول الوحدة و قد كان مشغوفا بحب الأطفال الصغار ، و كانوا يبادلونه هذا الحب باعتبارهم أشقياء وقحون مثله ، فكان يبدو له دائما أن بوسعه أن يجد لهم شيئا من صميم قلبه ، ما هناك في عالمهم الرحب .
قبل أن تميل قرص الشمس للمغيب ، بدأ الموظفون يتوافدون من أعمالهم ، اما الأطفال فهذا وقتهم المحبّب للعب بعد عودتهم من المدرسة و تناول لمجتهم ، و هاهم يلتفون " ببلهونة" و يبدأ التحرش به ، وهذا يمسكه من وجنتيه ، و ذاك يقذف بالكرة نحو قدميه ويتعثر و يسقط على الأرض ، و يثير ضحكات الأطفال الناعمة التي تصنع الألفة و المحبة و الصدق ، وهو يسمع قهقهتهم ، و يقبلون عليه و يراوغهم و يصرخون فيخطف ما تحمله أيديهم من الحلوة ، ولم يحدث مرة أن غضبوا منه أو اذوه ، بل كان همهم أن يقلّدوا بعض حركاته و تصرفاته البلهاء.
وفي المساء يودعهم و يغادر إلى الملجئ الوحيد البعيد قليلا عن الحي ، ليعزف لحن الفراق المفترس و حمل معه لوحات رسمها الزمن وتنسجم فيه روائع الحب ، و كان لهم حارس على أحلامهم و براءتهم مقاطع الناي بنفس الريش الذي يرقص من حوله الأشباح التي ترافقه في عين المكان.
ـ في الصبيحة استيقض سكان الحيّ على صيحة انتابت على الناس كلّهم .
ـ ما الخبر ؟
ـ ما الحدث ؟
ـ يا رب ماذا حدث ؟
سمع "برهونة" في أول الأمر ضجيج يثير سحابة من الحزن فراح يهدئ من أمره وهو يتهيأ لسماع الخبر .
ـ السيد" جبار" : إنه وليد ، إنه وليد اختفى منذ البارحة و لم يظهر له أثر الأوغاد سرقوه .
ـ ورجال الحي يهدئون من روعه .
ـ لا تخف ، لا تخف سيعود .
ـ السيد " جبار" من شدة حزنه و فقده للأمل .
قائلا :
كيف سيعود و هو مختف منذ الأمس و لم نجد له آثر طول الليل و نحن نبحث عنه ، في كل مكان ، ما تركنا الشرطة و لا الجيران و لا الأقارب ولا الأصدقاء لا أحد وجد له أثر ، لم نجد له سبيل .
يا ناس ، إنه حفيدي ، إنه فلذة كبدي ربما سقط في أيدي الذئاب التي لا تعرف الرحمة و تلتهم جسده و تقطعه إربا إربا .. لا لا ..
غير صحيح .. غير صحيح .. أين أنت يا وليد ، لما اختفيت يا بني عن الأنظار، أكيد لن تتحمل كل ما يحصل .
ـ " برهونة" يتمتم في نفسه .
ـ بلى سيعود ، حتما سيعود .
صعب الأمر على " بلهونة" و المنظر يقطع قلبه إلى أنصاف ، و كم صعب عليه أن يصف انطباعه في تلك اللحظة ، فالشعور الذي امتلكه و أحس به كان أكبر من الخوف و لأول مرة يشعر بالخوف ، أمام المجهول الغمض الذي تارة ما يعود إلى مخيلته ، و كان نوع من التحدي يعتريه " وليد " ليس المغطرس و ليس المتجبر ، ليس خصمه ، ليس ساخر منه ، ...
بل وليد ذلك الطفل الصغير و الجميل تحمر وجنتاه من شدة الضحك و البراءة ، هو الذي يرمي إلي حبة التفاح الأخظر ، أجل يحب التفاح و أنا ألقبه أبو التفاح أنبشها بأسناني و يطلق ضحكة تلج على قلبه الفرح و السعادة ، كأنما كان يود أن يفصح عن كلمة السر فقط بيني و بينه و منذ الأمس ، كان يود ان يقول أيضا لا تتركني معهم أنا بحاجة إليك .
ـ تطلع إلى ما حوله و يسأل ذاته إلى أين المسير ، الآن ؟
راح "بلهونة" ، وهو يمشي بين القبور ، يتفرج عليها لعلّه يفك طلاسمها ، و في هذه الأثناء اهتزت السماء و قد غطتها سحابة سوداء ، وكان الحزن يلف كل أرجاء الحي و هذا الوضع كان جامدا داكنا، عاجز عن الافصاح على أي جواب ، إلا أنا " بلهونة" تشد الثقة نفسه و يداعب شعراته و يضرب بأصابعه على رأسه .
ـ فكر أيها الرأس فكر ولا تكون غبي.
بين حين و حين غادر " بلهونة" المكان وهو يخرج من عبّه النقود التي جمعها و راح يعدّها و يسأل نفسه هل تكفي ؟
طبعا ، طبعا ، يا " بلهونة" المجنون تكفي .
هرع مسرعا قاصدا آخر طريق الحي ، هناك تباع الفواكه ، فجأة وقف على رأسه .
ـ هل من بعض التفاحات .
ـ ألقى عليه نظرة طبعا أيها الغلبان خذ هذا الكيس .
ـ دفع بلهونة الثمن لكن صاحب المحل رفض ان يأخذ منه و لو فلسا وحدا.
غادر المحل ويعود إلى مكانه الأول ، ما كان لأحد أن يروق له ما يفعله أو حتى يفهم شيئا بريقا و غامضا ، ينفذ إلىه بالطبع لأنه لا زال يحتفظ لمعة الوعي ، وهو يخطو خطواته و يعزف على الناي أناء الليل ، ألحان الألفة و إن رفعت بصرك يقطر خجلا و حياء ، وهو يشق الصعاب في معزل عن المكان ،و الريح عاوية كالعويل، و على طول المكان و مزيدا من الظلمات ثمة قليل من النور مضاء ينبعث تحت المقبرة حيث اعتاد عليه ، فكان كثير التردد إليه ليواسي القسوة التي يعجز عن تحملها .
"بلهونة" يصرخ بأعلى صوت ، التفاح ، التفاح ، يغار من عذوبته اللسان ،و اشربه نبيذا من كنياث الحقول ، إنها لمن أغلى الودائع على صدر الجميلة ،و يبقى له مجده و كبرياؤه كورد الربيع و ازهى و انظر .
فجأة وقف امامه رجل طويل القامة و عريض الوجه ، وهو يقهقه .
ـ من أنت أيها الغبي ؟
ـ ردّ عليه " بلهونة" قائلا :
أنا مجنون أنا عاشق التفاح.
ـ عاشق التفاح هههههههه
ـ أجل أناعاشق التفاح هل أقص عليك قصته .
ـ كان زمان ...
أو عاشق التفاح
ـ إنه يدندن ، مثل ودائع النهدين كبيرين لامرأة يتخيلها الزمان و المكان ...
ـ ازدادت قهقهة الرجل الغليض و قال له:
كفى ، كفى ..
ـ لست مجنون مثلك لسماع هذه السخافات .. فقط كم ثمنها؟
ـ أجل انت مثلي تعشق التفاح هات ديناران يا سيدي .
ـ هذه لك أغرب عن وجهي ...متطططفل أحمق .
ـ شكرا ، شكرا أيها الطيب
ـ أخذ الديناران وضعها في جيبه غادر المكان في تلك الظلمة العابسة و هو يختفي وراء القبور حتى سمعه يصرخ من الوجع و الألم و يتخبط على الأرض و ارتفعت درجة حرارته و أغمي عليه .
طبعا " بلهونة" كان ذكيا جدا فكانت حياته تضج على الدوام من ذكريات الماضي تنتصب من لحاء الأيام عندما تذكر أمرا ما .
اقترب من مكان القبر الذي كان يشع ضوء و بصوت خافت .
ـ هيا هيا ، يا وليد ، أتسمعني يا صديقي ؟
ـ أنا بلهونة .
ـ و لما دخل المكان وجده مربوط بالحبل و على فمه كمومة من القماش ، فأخرج سبيله و حمله على ظهره ، و بخطوات سريعة و النور يسري في المكان حتى وصل إلى آخر الطريق .
و مع ذلك و كالقدر المكتوب أنقذ وليد من أيدي الغرباء الذين اختطفوه لغاية ما .
و جاء به إلى الحي و يصرخ بأعلى صوت عاد وليد ،عاد وليد ،و قد وصل كبار الحي و الأطفال إلى ساحة الفناء و يحلق حوله الصغار و اطمأن الضمير .
يصرخ و يطلق ضحكات لأول مرة يشعر بالفرح و ينتصرعلى الصعاب و هو دائما يثق في الغد الغريب .
أنا "بلهونة" لم يكن لي أب ، ولا أم ، ولا ولد ...
أنا مازلت طفلا صغيرا.
انهمرت الدموع من عيونهم .
اقترب منه السيد جبار ، و ألبسه معطفه و يده مرتعشة يردد ...
ابن الحلال، ابن الحلال ...
هذا الرجل .
ـ
إرسال تعليق