في ذكرى غازي القصيبي .. مسيرة يستضاء بها!



                 

الكاتبة والشاعرة البحرينية: إسراء القصاب


بالحديث عن الأدب وكبار الأدباء، الذين يُعَدّون بمسيرهم الملهم، نباريس نستضيء بها، لا بد أن نستذكر الأديب الدكتور غازي القصيبي، لاسيما في ذكرى رحيله، إذ صادف يوم الخميس المنصرم تاريخ 15 أغسطس، الذكرى الرابعة عشر لرحيل الغائب الحاضر في وجدان الأدب العربي المخضرم غازي القصيبي، الذي يُعَد قامة أدبية وإنسانية مهمة، تركت بالغ الأثر في ذاكرة الأدب، وفي نفوس المعجبين بقلمه وفكره.

 وما لا أخفيه خبراً هو أنني أحدهم،  إذ طالما كنتُ أراه ملهم ومعلم، لاسيما أنني أشبه مسيري الشاب بشيء من مسيره العظيم! فإلى جانب إننا نتشارك بشكل أو بآخر التخصص الجامعي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ونتشارك أولى خطوات تجارب النشر في المرحلة الثانوية، ونتشارك الميول في التطوع المجتمعي والإنساني، والموهبة في الكتابة وفي ذات المجالات: المقال، والشعر، والرواية! والأهم من ذلك نتشارك عشقنا لوطني البحرين، وإنها لصدفة اكتشفتها خلال السنوات القليلة الماضية، بينما كنتً أتعمق في قراءة غازي بدهشة القارئ وإعجاب الكاتب، وربما هذا ما ولد بداخلي أيضاً اتجاهه هذا الانتماء.

وإن جئنا لنعرف غازي القصيبي، يكفي أن نذكر اسمه فالمعروف لا يعرف! إنما في سبيل الوصف يمكن أن نقول إن الدكتور غازي القصيبي، كان سياسي محنك، ورجل دولة من طراز رفيع، فهو الوزير الحكيم، والسفير الضليع، والأكاديمي الرصين، والمفكر البليغ، والأديب المبدع، والمثقف من العيار الثقيل.

وهو الرجل الذي بالرغم من مضي أكثر من عقد على رحيله، مازالت مؤلفاته الفكرية والأدبية التي تزيد عن سبعين مؤلف باقية كإرث أثرى المكتبة العربية بكتب ثرية القيمة والأثر، أسهمت في إضاءة العقول، وتغذية الذائقة الأدبية، هذا وما زالت إصداراته ضمن الكتب الأكثر مبيعاً وتداولاً، حتى ما بين أوساط الشباب.

عُرف غازي القصيبي بفكره التجديدي وروحه الإبداعية، حيث أسهم في التحول من الفكر التقليدي إلى الفكر الحديث بآرائه المستنيرة ورؤيته التنويرية السابقة لعصره، والتي بقي عليها رغماً عن رفض المحيط الذي لم يتقبل بعض أفكاره، وذلك لخصوصية البيئة والظروف المحيطة آنذاك، وكان من أوائل السياسيين والأدباء، الذين ربطوا السياسة بالثقافة، باعتبارهما مرتبطان ببعضهما، حيث يعد الأدب أحد مجالات القوة الناعمة، ويندرج ضمن الدبلوماسية الثقافية، لذلك أولى اهتماماً بجمع المثقفين والأدباء، وإقامة الفعاليات الثقافية بمقر السفارة في لندن حينما كان سفيراً يمثل بلاده.

 رحل غازي وبقيت أفكاره وكتبه مرجع مع تقادم السنوات يستضاء بها، في مختلف المجتمعات، وبين جموع الشباب، والكتاب، والمثقفين، والإداريين، وغيرهم، لتكون بمثابة دليل يستدل منها على وعيه ونبوغه، وشموليته وقدرته على تطويع فكره وقلمه بما يخدم مجتمعه والمجتمعات العربية، لتبقى مسيرته خير شاهد على  عطائه الفكري، والثقافي، والإداري، والاجتماعي، والإنساني.

ومن أبرز مؤلفاته المتعددة المجالات نذكر:

من دواوين الشعر: معركة بلا راية، أشعار من جزائر اللؤلؤ، الأشج، سحيم، وصوت الخليج، ومن الروايات: شقة الحرية، العصفورية، سبعة، سعادة السفير، وزهايمر، وفي المجال الفكري: الأسئلة الكبرى، الغزو الثقافي، التنمية، الوزير المرافق، وحياة في الإدارة.

وما لا يدركه البعض إن كان لغازي القصيبي أيضاً إمكانيات في الترجمة الإبداعية، حيث ترجم كتاب باسم المؤمن الصادق للمؤلف إيريك هوفر، كما ترجم  بعضاً من قصائده للغة الانجليزية من خلال ديوانه الشرق والصحراء.  

 هذا وكان له العديد من المقالات المنشورة في الدوريات العربية، والقصائد المغناة، كذلك تم ترجمة اثنتين من رواياته للغة الانجليزية من قبل مُؤلِفين آخرين، وهما سبعة وشقة الحرية.

أُطلق على غازي العديد من الألقاب: ككبير المثقفين العرب، وسندباد الشعر السعودي الحديث، وشاعر المملكتين في الإشارة إلى المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين.

اليوم تقدم جامعة اليمامة  في الرياض، كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية، تكريماً لإسهاماته الفكرية وأثره وانجازاته، كما تُقدم جائزة باسمه تخليداً لذكراه واحتفاءً بالمبدعين في مجالات الأدب، والإدارة، والتنمية، والتطوع كل عامين.

كان غازي غزير الانجازات كثير الآثار، يكاد لو بحثتم أن تجدوا له شيءٍ عن كل شيء، لذلك لابد أن نستخلص العديد من الدروس والعبر من مسيرته التي لا سقف لها، وما أستفدته وما أدعو للاستفادة منه واستخلاصه من مسيرته الملهمة، هو: إن النجاح يحتاج لمكافحٍ دؤوب، وإن يمكن للإنسان أن يكون متعدد المواهب والإمكانيات، ومن المهم أن لا يقتصر المرء نفسه بشيء واحد طالما يملك المقدرة، ولابد أن يكون الإنسان صاحب رأي وفكر بالاتزان والمنطق، وأن يكون جسور في الحق، ولا تهزه الآراء التي تحاول النيل منه، والأهم أن لا يكون إمعة، وأن يظل شغوف بعمله ومواهبه مهما بلغ من العمر.

وكما سبق وذكرت إن لو بحثتم لوجدتم لغازي شيءٍ عن كل شيء، لذلك أقتبس من نصائحه للشباب، كلمته التي أُلقيت في حفل تخرج كلية البحرين الجامعي عام 1985م: " يا شباب، أجيئكم الليلة خالي الوفاض، لا أملك عباءة الواعظ ، ولا محبرة المعلم، ولا حكمة الفيلسوف، لأتحدث إليكم حديثاً قصيراً يحمل ما في الشعر من جنون كالعقل، وعقل كالجنون، أقول: عندما يومئ إليكم الفجر بخجل، سيروا إليه بإصرار، وحين تهمس الحياة في آذانكم برقة، أجيبوها بصوت يصل إلى مسامع الشواهق، وعندما  يباغتكم اليأس، باغتوه بابتسامة الإيمان، وعندما تضج صدوركم بالأحلام الكبيرة، أقسموا أن تكونوا أكبر من أحلامكم، أقول: سوف ترتكبون العديد من الأخطاء، فلا تخجلوا من أخطائكم، ولا تمجدوها، وسوف يلتهم الفشل بعض أمانيكم الغالية، فلا تنصرفوا من مطاردة الأماني إلى مطاردة الفشل". 

وأقتبس من نصائحه التي خص بها الشعراء الشباب: "يتصور البعض من الشعراء الشباب، أنه لابد من كلمات معقدة ليصبح الشعر شعراً حقيقاً، وأقول لهم: إن أبسط الكلمات يمكن أن تصف أقوى المشاعر و أعمقها".  

ما أجمل كلماتكَ يا غازي، وما أروع مسيرتك المضيئة، وما أحلى أن نستلهم منكَ المواعظ والحِكَم، ومن عطائكَ الدروس والعبر.

وفي الختام أقتبس عن غازي هذه الأبيات المجتزأة بالتصرف من قصيدته حديقة الغروب، التي كتبها لزوجته في أخر أيامه:

"وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلاً         لكنه لم يقبل جبهة العارِ

وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلاً         وكان يمزج أطواراً بأطوارِ

وإن سألوكِ فقولي: لم أبع قلمي      ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري"


نحن نشهدك يا غازي، فقد كنتَ بطلاً وهذا الأثر، فالأبطال الحقيقيون يُذكرون بقوة فكرهم، لا بقوة معاصمهم.

Post a Comment

أحدث أقدم