آيلة...للحب

 




  بقلم الأديبة بلقيس الفارسية

هبطت الطائرة في مطار تبوك, وهناك وجدنا سيارة جيمس مع سائقها بانتظارنا أنا وزوجي وأبنائي الصغار إياد وشوقي

كانت المسافة بين تبوك والحدود الأردنية حوالي ثلاث ساعات ونصف تقريبا ,طبعا لم أستطع النوم لأنها المرة الأولى التي أسافر برا , مضى على رحيلي عن الأردن ثمان سنوات طويلة..طويلة جدا..نزلنا على الحدود وكانت الكلمة الأولى من ذلك النشمي (أهلا ستنا) فأدركت أني قد وصلت حمى أبي الحسين 

أسلوب لبق , كلمات راقية , خدمة سريعة,, مشكلتي كانت في ذلك الكعب العالي الذي انتعلته وللأمانة كان تصرفا غير مدروسا , ربما لقلة خبرتي بالسفر برا والذي يختلف عن السفر بالطائرة.

المهم كان الأمر صعبا مع زوجي الذي يعاني من إصابة في قدمه وطفليّ ,خاصة صغيري ابن العام ونصف الذي ملأ المكان صراخا كي أحمله , وهنا أصابني الإرهاق فما كان من قائدهم إلا أن طلب من أحدهم قائلا: ياشباب ساعدوا أختنا بالأطفال لتصل الى المكتب الثاني،ربما  يتسائل القارئ  لماذا أضيءعلى هذه الأفعال التي يراها الآخرون عادية إلا أني أراها بوابة لحياة جديدة , فأنت حين تدخل بلد بهذا الترحاب ستكون مشحونا بالحب والتفاؤل والرغبة في الإستقرار فيها.خاصة إن كنت مصابا بالقلق إبان انتقالك من حالة استقرار تام إلى حياة لا تعلم عنها شيئا (أقصد انتقالي من مدينة جدة التي عشت فيها لسنوات حياة مستقرة وجميلة).

دخلنا مدينة العقبة وعلى جهة القلب يرافقنا البحر الأحمر الذي رافقنا أيضا في مدينة جدة،لكن هذه المرة مختلف الإطلالة فأنت هنا ترى الجهة المقابلة للبحر، بحر تبصر أطرافه فهناك طابا المصرية تقبع كلؤلؤة بين الجبال ومن نفس المكان تلمح إيلات في الجهة الأخرى ، أيّ جمال هذا تطل عليك أربعة بلدان معا ( السعودية والأردن وفلسطين ومصر)!!!

وصلنا أحد فنادق العقبة, لم يكن بمحاذاة الشاطئ إنما مطلا عليه وهذا أضاف جمالا آخر فمن هذا الإرتفاع أرى السفن والقوارب ووجه البحر المبتسم لي كل صباح أما مساءا فكان لنا أحاديث كثيرة على شرفتي التي شهدت تعارفنا أنا وبريدج تلك السفينة الضخمة التي تقل الركاب لتعبر بهم المكان وتجمع قلوبهم بأحبتهم في أماكن أخرى , أما السفينة أور بحجمها الكبير..جدا.. الذي طالما أبهرني كانت تنقل البضائع فقد كانت مخصصة للنقل التجاري..

في ليلة ما ابتسمت لكل من اتخذ الشاطئ مقاما ومستقرا وقلت أيتها السفن والقوارب الأعزاء قريبا سوف أزوركم لأتعرف عليكم كلا باسمه وصفاته, وقد حصل بالفعل حتى القوارب "صغيرة كانت ام كبيرة "نشأت بيننا علاقة صداقةفكم بكيت لهم وأسررت لهم غربتي وشعوري بالشوق لأصدقائي وأحيانا كنت أزف لهم بشارات ,أما حين وضعت طفلي الثالث ( العقباوي) كريم فقد أقمنا أنا وهم ( القارب كوين نفرتيتي والقارب برينس) احتفالا خاصا.

بدأ زوجي بالعمل فور وصولنا مدينة العقبة الساحرة, حينها كان يعمل لساعات طويلة ليل نهار لافتتاح الشويخ مول ,هذا المركز الذي أصبح لاحقا محطة تسوق واستراحة لكل الرحلات السياحية التي ترتاد مدينة العقبة وذلك لتنوع معروضاته.

فور وصول أثاث منزلي واستقراري بدأت بالتعرف على هذه المدينة الهادئة الجميلة المليئة بالمتضادات , نعم, ستجد فيها كل شئ ومابين أهل المدينة الأصليين والسواح ستتدرج كل فصائل المجتمع وأشكاله , وسيكون التنوع والاختلاف الايجابي هو السمة السائدة .

تحتوي العقبة على الكثير من المكونات التراثية كالقلعة التي تشم فيها شذى الأجداد , والسياحية كالشاطئ والفنادق والمراكز الرياضية والمطاعم ومرصد الطيور بالإضافة للجهات العلمية كمحطة العلوم البحرية والمعرض العسكري البحري.

وشاطئ الغندور ذلك المكان الذي شهد لقاءاتي مع أصدقائي الذين زاروني من بلدان عدة كمصر وسوريا والعراق.

سألتني صديقتي اللبنانية ماري: لماذا يسمونها ثغر الأردن الباسم , فكان من الصعب أن أشرح لها كلاما إلا أني أحضرت ورقة ورسمت لها خارطة البحر الأحمر ومنطقة خليج العقبة وسيناء ووضحت لها أن شكل الخليج يشبه الفم المبتسم .. ضحكنا حين قالت بلهجتها العامية ( باسم باسم يختي المهم انه السباحة والغوص عندكم بتعقد).

أكثر ما كنت أحبه في مدينتي الجديدة هو شوارعها المنظمة الواسعة ومساحتها الرائعة فبساعة واحدة تستطيع أن تجوب المدينة كاملة بسيارتك وهذا لأنها ليست عشوائية.

تفاجئت هذا اليوم  بهاتفي الأرضي يرن وإذا بصوت سيدة تقول: بلقيس ما عرفتيني؟

- أهلا الصوت ليس غريبا لكني للأمانة لم أتذكر الاسم.

أنا فاديا المغربية صديقتك في شركة نوارة للأزياء, أتيت الأردن سياحة لأيام قليلة _نعم..نعم , لقد تذكرتك أهلا بك عزيزتي,ما رأيك أن تزوريني في العقبة فهي مدينة جميلة وسنقضي وقتا ممتعا

أجابت: ياليت ياعمري لكنها فقط يومين وسأكمل رحلتي باتجاه سوريا فتركيا, لكني أود أن أراك 

هنا احترت فالمسافة بين العقبة وعمان طويلة ومجهدة لي لوجود أطفال صغار خاصة أن زوجي لايستطيع مغادرة العمل ومرافقتي,شعرت بالحزن,, لكن زوجي حل الموضوع بسهولة حين أخبرني بوجود مطار في العقبة وخلال سويعات  قليلة كان الحجز جاهزا واغراضي أيضا وتوجهت إلى مطار الملك حسين الدولي وبفترة قصيرة كنت في عمان العاصمة بيسر وسهولة وهذه أيضا تضاف إلى رصيد مدينتي العقبة.

في جلستنا في العاصمة عمان سألني أحد الأصدقاء العرب : ماذا يشدك لتلك المدينة النائية البعيدة ؟ لماذا لا تقيمين هنا فالعواصم دائما يتوفر فيها كل شئ.

ابتسمت وأجبته: بالفعل، إلا أن مدينة العقبة أيضا يتوفر فيها كل الخدمات التي يحتاجها المواطن من مرافق عامة إلى دوائر حكومية كالجوازات والمحكمة ودائرة الترخيص والجمارك وغيرها. أما كمنطقة الشاليهات والفنادق فهي المكان الأكثر متعة وتفردا , بلإضافة إلى وجود المدارس  الكثيرة وعلى رأسها ( مدرسة الملك عبدالله للتميز) و المعاهد والجامعات , نظر بدهشة لأنه كان يعتقد أنها مدينة بسيطة ,, حدثته عن ساحة الثورة الكبرى ومراكز الشباب والشابات ,, استرسلت بالحديث خاصة أن اللقاء كان يشمل مجموعة سياح من عدة دول عربية, أردت أن أرسم في مخيلتهم صورة حقيقية وجميلة عن مدينة العقبة وأعطيهم معلومات تفيدهم حولها. فقلت: سميت العقبة بهذا الإسم لصعوبة الوصول إليها وتاريخ هذه المدينة الجميلة يعود إلى ثلاثة آلاف سنة , وقد كان اسمها في عهد الآدوميين آيلة ثم عقبة آيلة إلى أن اختصر الاسم وبقي العقبة , هذه المدينة يا أصدقاء تعتبر مصدرا للفوسفات وبعض أنواع الصدف وهي  البوابة المائية الوحيدة للأردن ,يبلغ عدد سكانها (222800) نسمة وكثافتها السكانية(32,3) نسمة كم2 لذلك فهي مدينة غير مكتظة هادئة لا ازدحام فيها, فاذا زرتموها لن تشعروا بالضيق أبدا..

في هذه المدينة يا أحبتي أربع معابر لذلك فهي بوابتكم لأكثر من دولة , معبر الدرة ومعبر وادي عربة والمنفذ البحري نويبع بالقرب من المحطة البحرية التي تعد معلما سياحيا علميا مميزا.والتفت إلى صديقتي سارة قائلة: سارة لطالما حلمت بإنشاء مركز عناية وتجميل شامل , أومأت برأسها مؤكدة كلامي , أكملت العقبة تحتاج لمشروع مثل هذا خاصة إن نقلت كل خبرتك التي تعلمتيها في دبي وجدة وباريس وطبقتيها  ستنجحين ,,_ لكني لست أردنية 

_ وماذا يعني؟  العقبة منطقة اقتصادية وفيها يمكنك الاستثمار والتملك أيضا ، على كل حال إذا قررت خوض هذه التجربة فسأساعدك بكل المعلومات والإجراءات اللازمة لذلك. 

بالفعل خلال عام ونصف كانت سارة قد بدأت عملها في مدينة العقبة بعد إنشاء مركز تجميل واستجمام يعد من أرقى وأجمل المراكز النسائية.

عدت لمدينتي الهادئة القابعة في جنوب الوطن وكأنها الحارس الأمين له, وأمضيت أيامي بين تربية أبنائي ورعايتهم والتحدث إلى معالم تلك المدينة الممتلئة بالجمال والسحر.

أما جيراني فقد كانوا الأهل والأحبة ولم أشعر بالغربة أبدا , فبإسكان الأطباء الذي أقمت فيه كان الأطباء وزوجاتهم خير الصحبة وكنت أنا وجارتي أم بشار كل جمعة نحضر أمتعتنا ونتوجه إلى مزرعتهم في منطقة الديسة تلك المنطقة الخضراء المبهجة لنعيش أجمل اللحظات بين الشجر  ونقطف الخضراوات  المختلفة والفواكه,,أما العم أبو بشار والمزارع فكان عليهما تحضير الزرب( وهو طعام مكون من اللحوم والرز والخضار يوضع في قدر محكم الإغلاق في حفرة يحيط بها الجمر ومن ثم تطمر لساعات لينضج في بطن الأرض..

الدكتور ( أبو بشار) الذي كان يعيش في كندا لسنوات أصر على شراء هذه الأرض وزراعتها بأصناف كثيرة من الأشجار ليهرب آخر الأسبوع الى أحضان الطبيعة’ أما الآن فقد أصبحت مصدر دخل إضافي للعائلة .

لطالما ضمت حديقة منزله أيضا الكثير من الأحبة , بالأمس كان السيد نادر الذهبي ( رئيس منطقة العقبة الإقتصادية)والذي أصبح فيما بعد دولة رئيس الوزراء وعقيلته بزيارته وقبلها عطوفة الدكتور المدادحة وزوجته وأنا هنا أذكر الأسماء لأؤكد على تماسك النسيج الإجتماعي في تلك المدينة الرائعة,,

في عام 2016 اختيرت العقبة مدينة الثقافة الأردنية , فازدانت جمالا وألقا وكانت المهرجانات الفنية والندوات الثقافية والفعاليات المختلفة تلبس ثوبا سندسيا بديعا كيف لا وهي ثغر الأردن الباسم!!!


زارتني قريبتاي القادمتان من أمريكا وبريطانيا وأولادهما وأخي القادم من دبي وزوجته وبناته, لقد التم شملنا لأول مرة منذ سنوات وكانت وجهتنا الأولى وادي رم ( وادي القمر) وقد سمي بهذا الاسم لأن تضاريسه تشبه تضاريس القمر , ذلك المكان الساحر الآسر المثير للدهشة , الذي زرع في ذاكرتنا الكثير من الذكريات والصور التي لا تنسى  ’ لم تكن المسافة بعيدة جدا سبعون كيلومترا تفصل بين العقبة ووادي رم وماهي غلا ساعة وربع وقد وضعنا رحالنا لنعيش أروع التجارب في تسلق الجبال المختلفة التي شهدت تصوير أفلام عالمية , بعضنا اختار ركوب الخيل وبعضنا ركوب المنطاد وغيرنا راح يراقب سباق الهجن, أما الشبان والشابات فقد ذهبوا في جولات مركبات الدفع الرباعي وكانت أصوات ضحكاتهم وصراخهم وصوت الأغاني الأردنية يملأ المكان ، ومساءا تجمعنا في تلك الخيمة الكبيرة لنتذوق ألذ الأكلات البدوية التي طبخت بحب مجبولة بكرم البداوة..

وفي الصباح الباكر حيث تشرق الشمس خجولة من جمال جبال رم ورماله وآثار الأنباط التي مازالت شاهدا على عظمة الإنسان بالإضافة الى بقايا المعابد وبعض أنظمة الري..

عدنا إلى العقبة , لأبقى في مدينتي الحبيبة ويعود كل منهم إلى بلده حاملا في جعبته أجمل الذكريات للحظات لاتنسى خاصة صور المرجان البديعة التي اشتهر بها خليج العقبة ، أما أجمل الصور فهي تلك التي كانت تلتقطها جارتنا منال وأخوها محمد في رحلات الغطس كل شهر, منال التي فازت وهي في عمر السابعة بالميدالية الذهبية في سباق السباحة للمسافات الطويلة بين العقبة وإيلات , ورغم أن دراستها الجامعية كانت في الجامعة الأردنية في العاصمة إلا أنها كانت  حريصة على زيارة العقبة كل شهر لتمارس شغفها بالغوص في ذلك البحر الذي كانت تسميه عشقي الوحيد.

لطالما ركبت سيارتي في الصباح الباكر واشتريت قهوتي المعتادة وذهبت الى المنطقة الخامسة تلك المنطقة المرتفعة لأرى البحر من بعيد وأغازله بصوت فيروز (شايف البحر شو كبير كتر البحر بحبك) ولطالما حلمت أن تصبح العقبة من أفضل المدن الساحلية في العالم في كل المجالات لأنها تستحق بالفعل خاصة أن جلالة الملك عبدالله بن الحسين المعظم قد أصدر توصيات وتوجيهات لجميع الجهات المسؤولة بالإهتمام بتلك المنطقة والعمل الدؤوب على تطويرها وخلق الأفكار الإيجابية والدفع بها نحو الأفضل .

مازالت العقبة تقيم بالقلب, ولها رصيد كبير في الذاكرة ,غادرنا إلى عمان , أما زياراتنا لها فلم تنقطع أبدا وأما البوح فهو دائم الحضور , فكيف لروح تعلقت بوجه البحر وحملت شذى وعبق الأماكن أن تنسى مدينة العقبة وأهلها الطيبين , وأصوات السفن معلنة كل حين أن الحياة هناك مختلفة جدا .. وجميلة جدا


من كتاب(الأردن.. أرض الرباط)


##بلقيس الفارسية

Post a Comment

أحدث أقدم