قراءة في كتاب "خالتي العنقاء" للأديب الفلسطيني خالد جمعة



بقلم قمر عبد الرحمن


غلاف الكتاب جميلٌ جدًّا إذا نظر إليه القارىء على أنه لقطةٌ من زاويةٍ معينةٍ من الثوب الفلسطيني، وحزينٌ جدًّا إذا ركز القارىء فيه على الأسود الكثير، والذي يرمز للحِداد الفلسطيني الذي لا ينتهي، وفي كلتا الحالتين يليق بمضمون الكتاب.. مصمم الغلاف خالد الناصري.


بدايةً توقفت عند اسم الكتاب، وتساءلت لماذا اختار الشاعر كلمة خالتي وليس أمي مثلًا أو ذكر اسم المدينة التي صبغت بالحروب "غزة"؟ وبعد التأمل.. توصلت إلى أن الشاعر يقصد بالخالة هنا غزة و"الخالة أم" كما يقول المثل الشعبي، والأم هي فلسطين ومدنها هن خالات أبنائها، يعني مدن فلسطين هن الأخوات المُساندات لها في الحب والحرب وليس الدول العربية "لا سمح الله" وعليه تكون خالتي غزة.. وخالتي جنين.. وخالتي الخليل.. وكلهن طيور عنقاء!


يحتوي الكتاب على (145) نصًّا بلا عناوين ما بين قصيدةٍ ونصٍّ نثري وومضات مكثفة لا تتجاوز 3-4 سطور، وحوارات مقتضبة وموجعة جدًّا!


مَن يقرأ شعر خالد جمعة، يعرفه من قبل أن يقرأ توقيعه، وهذا يعني أن بصمته في الشعر أصبحت واضحة لدى قرائه عبر المواقع، أو من خلال كتبه..


يستهل نصوصه بقصيدةٍ رائعة بعنوان "أمي كان ساحرةً طيبة" يصف فيها تدابير الله للأمور عندما تكون الأم حاضرةً في مكانٍ وزمانٍ معين، فيصف "من كُم ثوبها تُخرج ظلالًا في الصيف.. بدعاءٍ قصيرٍ يتوقف السقف عن الدلف.. من حكاياتها الليلية تخرج الأميرات ويجلسن معنا على العشاء" ويختم القصيدة ب"وكلما هتك الوقت آمالنا طرقعت بأصابعها، وألقت تميمةً سحرية، فتعيدنا أطفالًا من أول الحكاية" يا لها من نهاية واقعية جدًّا.. في الغالب نستشعرها جميعنا ولا نكتب عنها؛ أننا نبقى أطفالًا طالما ظل أمهاتنا يتحرك، وما أن يسكن هذا الظل حتى نشيخ فجأةً! وجود أمهاتنا يضخ الحياة فينا، ورحيلهن يعني أن هذا الضخ سينقطع، وبعدها نصبح كائنات بلا حياة لا ننتظر شيئًا إلا انطباق الموت علينا!


للأم نصيب الأسد في النصوص.. لا يمر نصٌّ إلا وذكر فيها الأم الزيتونة، أم الشهيد، أم الأسير..

مثل: "قال: لماذا صمتِّ حين ناديتكِ أمّي""لم يكن بالعشرين، تقول أمّه نهنهته الفاجعة""هكذا تحزن الأمهات، حين يموت أبناؤهن، يخبزن العاطفة أرغفةً عبقرية""صمت الأمهات يفضح المشهد كله""نساء مريضات.. أمهات بأولاد مريضين""لم تزرع أمي فضائل للموت في حكاياتها""أمي.. صبارة المثيولوجيا الوحيدة التي لا تجف"...إلخ


مَن يقرأ خالد يشعر أنّه مصوّرٌ بارعٌ يلتقط الصورة من بعيد.. تكون عاديةً، وربما عاديةً جدًّا بالنسبة للقارىء، ثم يقترب رويدًا رويدًا ليصل إلى التقاطة المشهد التي لا يراها إلا هو، مثل: "الجنازة طويلة.. والشارع ضيق.. والأصوات محشورةٌ في الحناجر.. تكاد تفتك بالأفق.. والشهداء في لحظة الوداع تلك.. كأنهم منذ لحظتين فقط سقطوا في النوم"


وفي بعض القصائد تكون الصورة بالعكس، يلتقط الصورة المصغرة ثم يأخذنا إلى الصورة الموسعة، بطريقته هو، مثل: "هناك دمٌ في الصورة.. صاعدٌ من الأرض إلى الجدار.. كأنّه ظلٌّ غير لونه.. ما أشد عناد الظلال" 


نصوص نثريّة مكثّفة، منها: "يا خالتي العنقاء.. منذ قرنٍ من الزّمان.. أجلس منتظرًا.. أحدّق في الرّماد" ويبدو من هذا النص استلهم منه الشاعر اسم الكتاب.

كما وتصدمك بعض النصوص، حيث أنه يرسم مشهدًا اعتيادي، ثم تأتي الخاتمة لتصفعك بالنهاية، ولا تأتي هذه القسوة إلا من تأمل الشاعر بالواقع الأقسى، وكيف لا يكون قاسيًّا وهو واقع حربٍ تلو حرب!


في نص "أخبرني قصة أخرى.. وقل لي فيها على الأقل.. إنك جعت ذات يوم.. وخفت حين بدأ الجنود بإطلاق النار.. كي أصدقك" يكسر فيها خالد حالة البطل الذي يلبسه الآخر للفلسطيني، وكأنه لا يجوع ولا يخاف ولا يشعر! صحيح أن الفلسطيني عظيمٌ بصبره، وصموده فاق الوصف، لكن لا يجب تأليه هذا الصمود على حساب شعور النفس البشرية.


أما عن نص "يبتسم الجندي ويطلق النار" يعبر بها عن مزاجية الجندي في القتل وإطلاق النار على الأبرياء أمامه، حيث لم يسلم منه لا بشرٌ ولا حيوانٌ ولا طير، يقتل ولدًا.. يقتل مزارعًا عجوزًا. وحصانًا عجوزًا لأنه انزعج من خطواته، ثم بعد القتل.. يشعر الجندي بالحزن، ربّما هي صحوة النفس الكاذبة التي يعيشها الجندي ليعزي نفسه بإنسانيةٍ مصطنعة، ثم يعود لهواية القتل!


وهناك نصٌ يبدأ ب"وكان بيتنا جميلًا كالجنّة" يصف به بساطة البيت الفلسطيني بأحزانه وأفراحه، وينهي النص بسؤالٍ بريءٍ وحزينٍ جدًّا من أهل البيت حين يأمرهم الضابط بمغادرة بيتهم الجنة، حيث يتساءلون: "خرج آدم من جنته لأنه أكل تفاحة، فماذا فعلنا نحن كي نخرج من الجنة؟!"


ويصف خالد مسرحية السلام المزيفة، بحوار بين الجندي وولدٍ على باب الأسباط، حيث يقول بتهكمٍ مضحكٍ ومحزن في ذات الوقت: "تعال لنتسلى قليلًا.. أطلق عليك رصاصةً في القلب.. وتغني لي أغنيةً عن الحرية، ونقول بعدها للعالم، كم نحن متوافقان!!...."


وفي نص "راقب جيدًا.. كيف ينمو وطنٌ بين جثث وغابات محروقة.. كيف يصنع عمي "العبد" من أثر الدخان العربي لحنًا وطنيًّا!.. وكيف تطير بسملة أمي في الصلاة لتلون سحابة!" الشاعر هنا يشرح أن هذا الشعب يؤمن بصدق الأم والعم والخال، ويثق ثقةً عمياء بجبين خالته "سكينة" وبثوب "أم جبريل" وبحكايا عمته "سعدة" فعلى الرغم من التاريخ المتأصل للشعب الفلسطيني في الأرض، إلا أن هذا الشعب يؤمن بالروحانيات أيضًا ونوايا الطيبين كالمُسلّمات هنا، مثلًا: نؤمن بدعوةٍ صادقة، أو بمعجزات شتلة الميرمية، نؤمن بشفاء سقيمٍ من تمتمات عجوزٍ تضع يدها المضمخة بالحناء على رأسه، وتلبس ثوبًا فلسطينيًا منذ زمن طويل. نحن شعبٌ نحب أن نعيش التفاصيل بحذافيرها أصدقها وأكذبها، حقائقها وأساطيرها، لنُكوّن ذكرياتنا الخاصة بنا كشعبٍ فريد، كما يقول الشاعر: "فالأوطان لا تخلق من جديد كل يوم.. فلا تفوت هذه الذكرى من يديك"


ويقول في إحدى النصوص: " يا لهذا الغياب الأنيق! يا ثعالب المقالب الخفيفة.. كيف نفذتم خدعتكم الأخيرة.. حين بقيت بصمات أصواتكم.. في ذاكرة الهاتف؟!" ما أقسى هذا النص!! قرأته مرارًا.. وتذكرت أمهات كثيرات كانوا يعدن سماع تسجيلات أبنائهن الأخيرة، ويحتفظن بها كذكرى مقدسة، يغلقن هواتفهن ويخبئنها في أدراج الذاكرة، خوفًا من ضياع بصمة صوت من رحلوا! وكلما اشتاقوا لبكاءٍ مماثل ليوم الرحيل، يخرجن الهواتف ويسمعن أبناءهن ويبكين حتى يتفتح بنفسج القناعة فيهن، بأن الله اختار أبناءهن لأنه ميزهم عن غيرهم في الدنيا والآخرة.


يسهب خالد في وصف الشهداء، رحلة صعودهم إلى السماء، وتبددهم في طبيعة الأماكن قبل الرحيل، فقد يكون الشهيد ذلك النهر، أو تلك الشجرة، أو حقل سنابل، أو غيمة، أو في ملامح الضوء، يأتي على كل الأشكال، المهم ألا يكون على طبيعته كما يصفه "مجرد رجل حزين"


لم ينس الشاعر أي شيءٍ موجع في العمق الفلسطينيّ، فوصف المخيم والحالة الشعورية بينه وبين أبنائه، فقال: "كنا نعرف عميقًا في دواخلنا، أن المخيم لا يصلح لحياة البشر، لكننا أحببتاه وزوقناه في مخيلتنا الهشة"

ولم ينس وصف الدم على الإسفلت وكيف يتحول من أحمر سائل إلى أسود يابس، بعدما يخرج الشهيد من المشهد! 


هناك عدة نصوص قصيرة توافق شروط فن الهايكو (أنسنة الطبيعة، المشهدية المكثفة، عدد الكلمات القليل، والقفلة المدهشة) لا أعلم إن كان يقصده بالفعل، مثل: 

الأمّ غيمةٌ

إن لم تمطر 

ظللت


فقط ابتسمي

وسأعطيك نهرًا 

بضفتين من أغانٍ


قرأت كثيرًا عن الأوطان بصورتيها الإيجابية والسلبية، لكن لم أقرأ أقسى من هذا النص، تخيلت أن هذه المناجاة والرجاء من الشهير حنظلة لله يصف فيه نفسه، عندما يحين له أن يستدير! حيث يقول:

ياربُّ:

وطني ولدٌ أعمى بساقين مفككتين، ويدين قصيرتين، وصدرٍ ضيق، ووجهٍ محترق، وشفتين حائلتين، وجلدٍ أصفر، وقوامٍ ناحل، وفوق هذا، فهو يتيم الأم والأب والأعمام والأخوال والإخوة والأخوات، على الأقل أعطه القدرة على الابتسام!


والصورة التالية في منتهى الروعة والجمال.. هذا النص يشبه الأمنية.. 

"بنتٌ بلون النار.. ذات وجهٍ مدورٍ وابتسامةٍ لا تظهر بكامل بهائها إلا في الليل، كانت لديها أمنيةٌ بالطيران، أغمضت عينيها، وعلى عكس ما يحدث عادةً، بقيت الأمنية على الأرض، وراحت البنت تصعد وتصعد، ومن يومها ظهر قمرٌ في السماء، وظهرت الأمنيات على الأرض"


واختزل خالد في ستة سطور، حال الرجل بلا امرأةٍ تعشقه ويعشقها في نص: "كنت أعرف رجلًا.. لا يبكي، لا يرتجف من البرد، لا يعاني من الحرارة في الصيف، لا يشم الورد، ولا يسمع الموسيقى، همست لي أمه ذات صباح، وهي تطعم قطتها: لم تكن له امرأةٌ في حياته!.


وتجسد العشق من خلف القضبان بنصٍ وجدانيٍ حد البكاء، حيث يقول في بدايته: 

اقتربي كي أودعكِ

ادخلي بين يدي المربوطتين

واسندي رأسك على كتفي لعشر ثوانٍ

قد تكفيني وتكفيك لما تبقى من حياة...إلخ.


قصيدة أخرى عميقة تحكي عن الفرق الشاسع والموازي بين حياة الرجال العاديين وحياة الرجال المناضلين، في قصيدة موجهة إلى "كمال أبو وعر" الذي استشهد في سجون الاحتلال جراء الإهمال الطبي المتعمد، وحتى بعد معاناته واستشهاده بقي في ثلاجة الموتى سجينًا أو ربما بمقابر الأرقام، حاله حال الكثيرين. وقصيدة أخرى للشهيد محمد كيوان، وقصيدة معبرة أيضًا عن الأسرى يقول في بدايتها: "ليسوا من فولاذ كما قيل لكم" فالأسير إنسان مثلنا يشعر.. يفرح ويبكي، يحب ويكره ويتألم. 


كما أن هناك تساؤلات متفرقة لا إجابات لها إلا مزيدًا من التأمل والوجع، ومنها الأكثر وجعًا.. 

لماذا كل هذا الحذر في المجيء؟ 

ولماذا كل هذه الجرأة في الغياب؟

 

مشاهد عديدة أيضًا من الحرب المستمرة على غزة: كقصة الطفل (يوسف) الذي انتشرت في بداية الحرب من كلمات أمه المكلومة، (أبيض، وحلو، وشعره كيرلي)


ويختم الشاعر الكتاب بنصٍ يجب أن يكون من النصوص الأقسى في العالم! وللأسف قد تجسد هذا النص بكثرةٍ وبألمٍ مضاعفٍ في الحرب المستمرة على غزة، حيث يقول: "يارب لقد أرسلنا لك (أحبابك) لم يكن لدينا الوقت ولا المعرفة، لنضع كل (شلو) للجسد الذي يتبع له.. حين تصلك أشلاؤهم.. لملمها بمعرفتك!


كان هذا الكتاب متخمًا بالحزن حد البكاء، أتمنى أن أقرأ لخالد في المستقبل القريب كتابًا مضمّخًا بالنصر حد الفرح..

الصّادر عن دار المتوسط/ إيطاليا



Post a Comment

أحدث أقدم