بقلم قمر عبد الرحمن
جـــرّب أن تفكّر في حال الأســـرى بصوتٍ عالٍ!
لك أن تتصوّر هياكل عظميّة يكسوها الهزل والشَّعر، مكدّسة في مكانٍ واحد، كان السّجان يخافهم لمبدأهم في النّضال والحياة قبل أن يتحوّل مظهرهم، كيف وقد يتهيّأ له الآن أنّهم وحوشًا مفترسة (يحملون مبدأً ومظهرًا مخيفًا) وخاصّة بعدما اشتعلت شرارة هذه الحرب لأجل كرامتهم؟!
الأرض خشنة وتلسع في الحرّ وفي البرد، وعلامات التّعذيب على سائر الجسد تلسع، والجوع يلسع، والمرض يلسع، وصوت السّجان يلسع، يمشون.. يتعثرون.. قد يقعون أحيانًا.. يداسون.. يتكومون فوق بعضهم كهياكل عظميّة، ثم تعود حلقات التّعذيب لتفريقهم من جديد!
وسط دروب التّيه هذه، الشّهداء قناديل في عتمة الخيبات، يحملونها بأيديهم في اللّيالي الطّويلة لتضيء لهم دروب التّيه والعتمة، كلّما ارتفع أحدهم من ضيق الظّلمات إلى رحابة النّور المفضي للجنّة، استندنوا على بطولاته، واستراحوا في ظلاله، وتحت كرامة الشّهيد يحتمون من الهوان، ربّما قصصهم طمرت في رمال الصّحراء، ودفنت في مجاهيل الأرض، لم يكن لهم من شاهدٍ يروي ما سطّروه من تضحياتٍ أسطوريّة إلّا الله، ولن يحكي عنهم أحد، تمامًا كمن يكون تحت الأنقاض في الحرب، لا يموت من الجوع ولا الاختناق، بل لأنّه بنى أملًا عظيمًا في سقف داره ثمّ سقط على رأسه، واختنق بالغبار وهو ينفخ أملًا آخرًا في الانتظار، انتظار أحدٍ ينقذه ولم يأتِ!
ولسان حال الأسرى يقول:
هل تسمعون صوت الخيانة العالي؟
هل ترون وقاحة الخطوات أمام وجع الأمّهات؟
هل تقرأون لبادة القرارات؟
إنّ خنجر الخيانة واضحٌ.. واضحٌ في قلوبنا!
بل ويتبادلون تحريكه يمينًا وشمالًا!
ليحفر جرحًا أعمق وأعمق!
العالم يحكي كلّ دقيقةٍ عنّا..
ونحن المكبّلون في الكلام والسّلام
في الهتاف والائتلاف!
محاصرون
ما بين الرّأي والرّأي الآخر
ما بين رائحة المسك.. وغبار المرحلة
ما بين الأسلوب والأسلوب الآخر
بين ما نقول.. وما نفعل!
مقهورون
لطول النّفس الغير مبرر
اغتالونا بحقدهم.. سمّمونا..
أذابونا جوعًا وقهرًا
يا سادة القلوب الرّحيمة الشّحيحة
هل أدركتم الآن..
لماذا نزحف للشّهادة زحفًا، نرجوها سرًّا وعلنًا؟
ونفتح صدورنا للمدفعيّات والبنادق!
ولا نخشى ظلمة السّجون والخنادق!
نختار السّماء بلا تردّد!
لتحرير هذه الرّوح المأسورة،
فالسماء موطننا الواسع!
هل نصمد؟ وماذا يعني الصّمود بعد الآن؟ قد تكون البطولة جبرًا أو قد تكون قدرًا، لكنّها ليست بالضّرورة اختيارًا، كثيرون ممّن وجدوا أنفسهم يمثّلون دور البطولة لأنّهم لا يملكون خيارًا آخرًا، كان عليهم أن يتحوّلوا إلى أبطال، لأنّهم أدركوا أنّ الله اختارهم لهذا المكان وبهذا الوقت، ليس عبثًا!
يلتمسون الجدران ليدركوا أنّهم أحياء! يشمّون رائحة الرّطوبة ليوقنوا أنّهم لم يموتوا بعد! يقشّرون بأظافرهم عفنًا متراكمًا في زوايا الزّنزانة ليعرفوا الحقيقة! يضغطون على عظامهم البارزة حتّى يهتدوا لوجودهم! من يستطيع أن يقنعهم أنّهم لا يهذون بهذه التّأملات في انتظار الحياة، من الذي سيقنعهم أنّهم ميّتون! يرفضون الموت بشتّى الأشكال، ولو دخلنا لعمق عمق ذاكرتهم لوجدنا في كلّ ذاكرةٍ طيفًا يفسّر تمسّكهم في الحياة، سواء أكان الطّيف لحبيبة أو لأمّ أو لزوجة أو لابنة أو لحلمٍ ما، ويملأ هذا الطّيف رئاتهم بالهواء النّقيّ الذي حرموا منه، والذي لا يقرّ بوجودهم!
كيف يتقبّل المحبوس ما يتعرض له من تعذيبٍ ويحتمله ويتكيّف معه، فهل هو بذلك يركن إلى الذّل أو يحاول الحياة؟! الذين خفضوا رؤوسهم هل خفضوها مذلةً أم من أجل أن تمرّ العاصفة؟!
أعدى أعداء السّجين كرامته، تقف مثل رمحٍ في وجهه، إمّا أن يحملها ويقاتل بها ومن أجلها، أو ينحني أمامها لتدوسه الأقدام، فهو مذبوحٌ في الحالتين؛ فأيّهما يختار؟! وهل الخيار في سجنٍ صغيرٍ أو كبيرٍ إرادة؟! أم أنّ الإرادة انذبحت على عتبة بوابة الوطن التي عبرت منها الآلاف البشرية القابعة في هذا الظّلم الشّرقيّ المُهلك؟!
إرسال تعليق