بقلم: الأستاذ الدكتور سلطان المعاني
تشكلت على الأرض السورية طبقات متراكمة من التاريخ والثقافات، تقف شامخة كأحد أهم المراكز الحضارية في العالم القديم. إنها لوحة فسيفسائية رائعة، جمعت بين تنوع الشعوب وتداخل الحضارات، فكل حجر وكل ذرة تراب فيها تحمل ذاكرة عميقة عن الإنسانية بأطيافها المختلفة. الباحث الأثري، حين ينظر إلى سوريا، يراها كياناً زاخراً بالتحولات، حيث تتحدث الشواهد الأثرية عن قصص لا تنتهي من الإنجازات البشرية، والصراعات، والتطورات الفكرية والاجتماعية.
إن الحفر المعرفي في أعماق الحضارة السورية يبدأ من فك رموز اللغات القديمة التي نشأت وازدهرت على هذه الأرض، مثل الأوغاريتية والأكادية، اللتين شكّلتا نوافذ مشرقة على أولى محاولات الإنسان لتدوين أفكاره ومشاعره ونظمه الاجتماعية. مدينة أوغاريت، الواقعة على الساحل السوري، تُعدّ مهد الأبجدية الأولى التي أضاءت ظلام التاريخ. جاءت الأبجدية الأوغاريتية تعبيرًا عن الفكر الإنساني في أوج حريته، حيث انتقلت المفاهيم الكبرى لأول مرة من الأذهان إلى الألواح الطينية.
وعلى امتداد سهول سوريا الخصبة وجبالها، تركت الحضارات البابلية والآشورية والفينيقية والآرامية بصماتها الراسخة. وفي تدمر، مثالاً لا حصراً، تتجلى واحدة من أعظم مدن العصور القديمة التي استطاعت بعبقرية هندستها وتخطيطها العمراني أن تكون حلقة وصل بين الشرق والغرب. ويمكن للزائر إلى هذه المدينة الأسطورية أن يتلمس عظمة الفكر البشري المندمج مع الطبيعة، حيث تنتصب الأعمدة الرومانية في تماهٍ مثالي مع السماء الصافية، بينما تحمل النقوش والتماثيل شواهد على ازدهار ثقافة تجارية وروحية فريدة.
إن التاريخ في سوريا هو تاريخ المدن، وتاريخ الإنسان نفسه. فالباحث الأنثروبولوجي، حين يتأمل مواقع مثل تل حلف أو تل مرديخ (إيبلا)، يجد نفسه أمام تجمعات بشرية قديمة، وأمام صفحات من كتاب الحضارة التي تُظهر كيف طوّر الإنسان أساليب العيش الجماعي، وتنظيم الاقتصاد، وتطوير الفن. وقد شفت الحفريات في هذه المواقع عن قصور ومعابد وأسواق، وعن نظام إداري متقدم يوحي بأن المجتمعات السورية القديمة كانت تمتلك رؤية فلسفية وإدارية للحياة.
سوريا موطن الحضارات، وملتقى الأديان والفلسفات، حيث وُلدت الأفكار الكبرى ونمت عبر العصور. فمن دمشق التي كانت مركزًا للعالم الإسلامي الأموي، إلى حلب التي شكّلت معقلاً للتجارة والفكر، تتناثر المواقع التي تعكس تداخل الثقافات والأديان؛ المعابد القديمة تحولت إلى كنائس ثم إلى مساجد، دون أن تفقد هويتها الأصلية، في مشهد يعكس قدرة سوريا على احتواء التنوع وصهره في بوتقة واحدة.
إنّ المشهد الثقافي السوري عميق وغني بفضل هذا التراكم التاريخي. وحين ينظر الباحث الأنثروبولوجي إلى تقاليد سكان الريف السوري أو إلى طقوس الاحتفال في المدن، يكتشف أن هذه الممارسات لم تكن وليدة العصر الحالي، إنها امتداد لطقوس ومعتقدات ضاربة في القدم. الأزياء التقليدية، والأهازيج الشعبية، وحتى طريقة بناء البيوت الطينية، كلها تحمل ذاكرة الماضي. إنها استمرارية للهوية الثقافية التي قاومت الزمن والغزاة والدمار.
ولعل أكثر ما يثير دهشة الباحث هو قدرة الشعب السوري على الحفاظ على روح الحضارة رغم الكوارث التي تعرضت لها هذه الأرض عبر القرون. فالغزوات والحروب كانت تحدٍّ لمقومات البقاء، وكانت أيضًا محفزًا على التجدد والإبداع. والحكايات الشعبية التي تنتقل من جيل إلى جيل، والأغاني التي تروي قصص الحب والشجاعة، والأسواق التي لا تزال تضج بالحياة، كل هذه العناصر تعكس روحًا لا تُقهَر. سوريا، بكل ما تحمله من جراح وآلام، لا تزال منارة للحضارة التي تلهم العالم.
الحضارة السورية ماضٍ مجيد يُدرس، وحاضر ينبض بالحياة ومستقبل يحمل وعودًا بالتجدد. إنّ الباحث في أعماق التاريخ السوري يدرك أنه أمام تجربة فريدة من نوعها، حيث تتقاطع الجغرافيا مع الإنسان، والتاريخ مع الأسطورة، والفكر مع المادة. سوريا مرآة للإنسانية جمعاء، تلخص قصة الحضارة بكل عظمتها وتناقضاتها.
شكلت الأرض السورية مصدر إلهام لكثير من المفكرين والمؤرخين، فقد كانت ولا تزال رمزًا لتداخل الثقافات وتواصل الشعوب. في هذا المكان الذي التقى فيه الشرق بالغرب، وتمازجت فيه الثقافات القديمة مع روح العصر، وجد الباحثون والشعراء والفلاسفة أنفسهم منجذبين إلى سحرها، متأملين في أبعادها الحضارية التي تجاوزت الزمن والجغرافيا لتترك أثرًا خالدًا في وعي الإنسانية.
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، إن "الشعوب التي مرّت عبر سوريا تركت وراءها إرثًا لا يمحى"، وهو قول يحمل بين كلماته حقيقة واضحة: سوريا التي استقبلت الحضارات، كانت بوتقة صهرت هذه الثقافات وأعادت تشكيلها. من مدينة أوغاريت التي أهدت العالم أول أبجدية مكتوبة، إلى تدمر التي تجسد في معمارها عبقرية الفكر الإنساني، ظلت سوريا مساحة للإبداع الذي لا يعرف حدودًا. إنها تلك الأرض التي لم تكتفِ بأن تكون شاهدة على التاريخ، بل كانت صانعة له.
وقد وصف وليام فوكسويل أولبرايت، عالم الآثار الأمريكي سوريا بأنها "مركز للإبداع والتجديد"، مقارنًا بين أدوارها في العصور القديمة وما قدمته من نظم اجتماعية وثقافية شكلت أسس الحضارة الإنسانية. هذه الفكرة تجد صداها في تحليل آرثر كيث، عالم الأنثروبولوجيا، الذي أشار إلى أن سوريا تمثل "الأرشيف الأثري للإنسانية"، حيث يروي كل حجر فيها قصة أجيالٍ عاشت، صاغت، وتحدّت مصيرها.
ولا يمكن الحديث عن سوريا دون الوقوف عند ألقها كملتقى للأديان والثقافات. قال جورجيو بوتشيلاتي، عالم الآثار، إن "كل اكتشاف جديد في سوريا يفتح أمامنا نافذة على روح الإنسان الذي سعى دومًا لفهم الكون من حوله". وتتعمق هذه الصورة مع قول الفيلسوف كارل ماركس، الذي رأى في تاريخ سوريا نموذجًا للصراع الإنساني بين الظلم والنهضة، معتبرًا أن قصتها هي انعكاس لقدرة الإنسان على التجدد والتطور حتى في أحلك الظروف. في المقابل، يضيء الكاتب اللبناني أمين معلوف على بُعد آخر، حين يرى في سوريا انعكاسًا "لروح الشرق الأصيل"، تلك الروح التي تحمل في داخلها ذاكرة العالم القديم وحيوية الإنسان الحديث.
إنّ ما قاله الباحثون والمفكرون عن سوريا تأكيد على أن هذه الأرض تحمل رسالة تتجاوز الحاضر. إنها رسالة تستمد قوتها من عمق التاريخ، لكنها تمتد لتشمل الأمل في المستقبل. كما قال إدوارد سعيد: "سوريا هي البوصلة الثقافية للشرق الأوسط"، إشارة إلى قدرتها على الاستمرار كجسر بين الماضي والمستقبل، وكفضاء للتفاعل الإنساني الذي يعيد تعريف الهوية بمعناها الأوسع.
في كل حجر من أحجار تدمر، في كل نص مسماري من إيبلا، وفي كل نقوش أوغاريتية، نجد صدى لهذه الكلمات التي أطلقها المفكرون والباحثون في محاولتهم لفهم عبقرية سوريا. إنها شهادات علمية وأدبية، وإنها انعكاس للدهشة والإعجاب اللذين شعر بهما كل من اقترب من هذه الأرض.
إرسال تعليق