الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي تمثل حقبة العثمانيين
الكاتبة نورهان حماده
أمس، دار بيني وبين صديقتي السورية نقاشًا شيقًا حول فترة الحكم العثماني في مصر وبلاد الشام، تلاقت نظرتنا للحكم العثماني بوصفه احتلالًا وليس خلافة عثمانية، وذلك استنادًا إلى المصادر التاريخية في بلدي وبلدها. وبعد أن أنهينا حديثنا الشيق عن هذه الحقبة الزمنية من عدة زوايا مختلفة، صادفني منشور لفتاةٍ تركية على منصة إنستقرام تزور قصر محمد علي باشا في مصر وتعلق عليه بعبارةٍ مترجمة إلى اللغة العربية: "بلد أجدادي، أيام الخلافة العثمانية على مصر."
تذكرت حينها حكاية الفيل والعميان الثلاثة، فكل منا يرى جزءً من الحقيقة من زاوية مختلفة، وكلنا على حقٍ بطريقته الخاصة. فالتاريخ، كالفيل، له جوانب متعددة، ونحن ندركه من خلال تجاربنا ومعارفنا وثقافتنا. فـ ربما رأت تلك الفتاة التركية في العهد العثماني امتدادًا لتاريخ بلادها، بينما نراه نحن العرب من منظور الضحية والاستعمار. فالتاريخ ليس مجموعة حقائق ثابتة، بل هو سردية متغيرة تتأثر بالزمن والمكان والمنظور.. والراوي أيضًا.
من القبيلة الرعوية إلى الإمبراطورية: حقيقة أصول الدولة العثمانية
وفقًا لما استقرت عليه الأبحاث التاريخية والوثائق العربية التي تضمنت حقيقة أصول الدولة العثمانية، فإن العثمانيين كانوا في الأساس قبائل رعوية هاجرت من آسيا الوسطى واستقرت في الأناضول (تركيا حاليًا).
ومن وجهة نظر بعض المؤرخين العرب، فأن توسع الدولة العثمانية كان مدفوعًا بأطماع سياسية وتنافس على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط والتي كانت تواجه صراعًا إقليميًا آخر بين الصفويين (الشيعة) والمماليك على الموارد والأراضي. ويرى المؤرخين بأن وجود الدولة العثمانية كان نتاجًا لتفاعلات سياسية ومعارك على السلطة، وأن فكرة الخلافة الإسلامية كانت تستخدم فقط كأداة لتبرير التوسع والسيطرة.
الحكم العثماني في الذاكرة الجماعية عند العرب
لا يختلف غالبية العرب سواء في مصر أو بلاد الشام في الاتفاق على وصف القرون الأربعة للحكم العثماني بالاحتلال وليس الفتح، إذ يوصف "الدسوقي" أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بأن العثمانيين ليسوا سوى مستعمرين وغزاه احتلوا بلاد العرب ونهبوا ثرواتهم وأورثوهم الضعف والهوان. حيث تشير المصادر التاريخية وبخاصة كتاب المؤرخين المصريين كابن إياس وابن زنبل الرمال، بأن ما حدث في مصر بعد دخول العثمانيين أشبه بالنكبة وذلك لما تعرضت له مصر من نهب وسرقة، فعقب انتصار العثمانيين على الفرس، نقلوا أصحاب الحرف والصناعات إلى إسطنبول مما تسبب في تدهور الاقتصاد المصري.
أما في العراق وبلاد الشام، فالوضع وفقًا للمصادر التاريخية يشير أيضًا إلى تعرض هذه المناطق لنهب واسع النطاق، ففي دمشق على سبيل المثال، يروي مؤرخي هذه الحقبة أن الدولة العثمانية قد ارتكبت مجازر شنيعة أسفرت عن مقتل الآلاف من المدنيين ولم تتوقف المآسي عند هذا الحد، بل شملت كذلك عمليات نهب واسعة للأموال والممتلكات أدت إلى تدهور الاقتصاد وفساد الأنظمة الإدارية.
ولعل من أبرز المحطات أيضًا وأشدها قسوة، ما وثقه التاريخ اللبناني لحقبة الحكم العثماني لا سيما في العام 1917 الذي شهد حصار وتجويع واسع النطاق، تلك المجاعة وفقًا لما جاء في كتاب "لبنان 1914 - 1918 للمؤرخ اللبناني عصام خليفة، كانت نتيجة سياسة معتمدة من قبل القوات العثمانية الذين فرضوا حصارًا خانقًا على المنطقة وصادروا محاصيلها الغذائية لإطعام جيوشهم وقد وصف المؤرخون هذه المجاعة بأنها إبادة جماعية استهدفت المسيحيين بشكلٍ خاص.
أيديولوجيا الدفاع عن العثمانية عند بعض المؤرخين
على الرغم من الوثائق التاريخية التي تشير إلى الجرائم المرتكبة من قِبل القوات العثمانية في المنطقة العربية، إلا أن هناك بعض من المؤرخين ممن يقرون برواياتٍ أخرى حول فترة الحكم العثماني، مستشهدين بذلك بأن فترة الحكم العثماني قد شهدت ازدهارًا واسعًا أيضًا في شتى القطاعات المختلفة، فضلًا عن أن العثمانيين قد حموا المنطقة العربية من الاستعمارات المختلفة التي كانت سوف تلحق بها لولا أن تصدى لهم العثمانيون. وفي كتاب "مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500- 1800"، تقول المؤرخة المصرية نيللي حنا، بإن "مصر شهدت رواجًا تحت الحكم العثماني في أغلب القطاعات والمجالات"، مضيفة "كانت مصر من دون قناة السويس، ورغم ذلك كانت هي نقطة انطلاق البضائع من الغرب إلى الشرق، فرغم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح على يد البرتغاليين، فإن مركزية مصر وسط خريطة الاقتصاد العالمي لم تتأثر كثيراً".
أما المؤرخ عبد العزيز الشناوي، فقد أشار إلى مصطلح "الحامية العثمانية" والذي في رأيه يعكس طلب الدول الخاضعة للحكم العثماني إلى الحماية، حيث يقول "أما حركات التمرد فلم تكن استقلالية أو انفصالية، بل كان يتزعمها أصحاب عصبيات أو قادة عسكريون أو زعماء دينيون من أتباع مذاهب دينية استهدفوا الانفراد بشؤون الإدارة والمال، على أن تكون الولاية في الأعم الأغلب في نطاق الدولة العثمانية".
كيف يرى الأتراك الدولة العثمانية؟
قد يُخيل لدى الكثير من العرب أن العثمانيين أصلهم أتراك في الحقيقة، إلا أن أصل العثمانيون يعود إلى قبيلة قايي التي كانت تسكن وسط آسيا، نتيجة تعرضهم للغزو المغولي، هاجرت تلك القبيلة إلى الأناضول (تركيا حاليًا) ثم استقرت بها وقت كانت تركيا تحت حكم السلاجقة. كان قائد هذه القبيلة يعرف باسم أرطغرل والذي عمل هو ورجاله في خدمة الدولة السلجوقية وحاربوا في صفوفها ضد الأعداء، وبعد وفاة أرطغرل، أسس ابنه عثمان الدولة العثمانية التي تولت حكم تركيا وتوسعت لاحقًا وأصبحت إمبراطورية عظمى تقع سيطرتها العديد من الدول كما ذكرنا سالفًا.
وبالنسبة للشعب التركي، فإن الآراء حول الدولة العثمانية في تركيا متنوعة ومتشعبة وتضم عدة جوانب منها الإيجابي ومنها السلبي، ويعزى ذلك لعدة عوامل من بينها التمييز الديني والقومي، إذ يرى البعض أن الدولة العثمانية كانت تتبع سياسة التمييز في تركيا لاسيما مع المسيحيين والأرمن واليونانيين والكرد، ويشير الكثير من النقاد إلى أن الدولة العثمانية كانت استبدادية وتسببت في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في حين يرى بعض آخر أن الدولة العثمانية كانت متخلفة عن الدول الأوروبية في ذلك الوقت في عدة مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا وغيرها، لافتين إلى الحروب الطويلة التي خاضتها الدولة العثمانية والتي أدت إلى استنزاف مواردها البشرية والمادية آنذاك.
أما مؤيدي الإمبراطورية العثمانية من الأتراك، فيميلون إلى إضفاء نظرة إيجابية على الدولة العثمانية ويرونها إمبراطورية عظمى ساعدت في نشر الإسلام والثقافة التركية وحافظت كذلك على الأراضي الإسلامية من الغزو الأوروبي، مركزين على الإرث الحضاري والعمراني الغني الذي خلفته الدولة العثمانية سواء في الأناضول أو المنطقة العربية بصفة عامة.
سقوط الدولة العثمانية في تركيا
كـ عرب، فإن جميعنا يعلم كيف سقطت الدولة العثمانية في بلداننا، أما على الجانب الآخر وبالتحديد في تركيا حيث مهد ميلاد الدولة العثمانية، فيمكن القول أنه في يوم 29 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول وبالتحديد في العام 1923م، أعلن مصطفى كمال أتاتورك، قائد الحركة الوطنية في تركيا آنذاك، قيام الجمهورية التركية الحديثة منهيًا بذلك عصر الدولة العثمانية تمامًا وذلك بعد انتصاره في حرب الاستقلال ضد الحلفاء، إذ تمكن أتاتورك من توحيد الأراضي التركية وإقامة نظام جمهوري علماني، وقد قام أيضًا باتخاذ بعض الإصلاحات الجذرية التي شملت إلغاء نظام الخلافة وتحديث القوانين، وتطوير التعليم، مما ساعد تركيا في أن تصبح دولة حديثة معاصرة ومتطورة. وما بين مؤيد ومخالف للدولة العثمانية في تركيا، إلا أن أتاتورك يعد أن الرموز المهمة في تركيا والتي تعبر عن التحديث والتقدم ويقوم الشعب التركي بالاحتفال بذكرى تأسيس الجمهورية التركية في كل عام كعيد وطني.
إرسال تعليق