اللغة العربية.... بين الظاهر والباطن

 


الكاتبة  منال أبولاوي

كيف يتلقى قارئ اللغة العربية كلماتها؟ وما الهيئة التي يرسمها في أفق خياله لها ؟؟وهل من سبيلٍ ليتلمّس الحسّ الجماليّ بين أصواتها على اختلاف أنواعها ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ قد تمرّ عبر أثير سطورنا المكتوبة .


كثيرون مَن يقرأون اللغة العربية ، ولا يجدون فيها أكثر من وسيلةٍ للتواصل بين العالم من حولنا ، لغةٌ كغيرها مِن لغات العالم ، نتكلمُ عبرَها ، وننقلها مِن مكانٍ إلى آخر دون التفكير في الكيفيّة التي تمّ نقلها من خلالها ، لا ينظرون إليها إلا كوسيلةٍ لنقل العلم ، ومنهجيةٍ للتعليم في شتى ميادينه . 


كيف لا ؟ وهم لم يتجازوا الكلمات المرسومة بالحبر على السطور ، قد اكتفوا بما ظهر منها على سطح الورقة البيضاء . 


إنّ هذا النوع من القرّاء يشبه تماماً مَن يقرأ  القرآن الكريم ، ناطقاً بما ظهر من حروفه دون أنْ يتأمّلَ في مدلولاته وإيحاءاته وجماله البلاغي ، ولا بدّ أنْ نتذكّرَ أنّ لغة القرآن هي الأصل والأساس في اللغة العربية ، والتي نلجأ إليها كمصدرٍ وثيقٍ لنسدّ أيّ ثغرٍ في عربيّتنا والبتّ فيه.


من هنا ، فإنّ القارئ المبدعَ لا يكتفي بالظاهر له من تلك الحروف ، ولا بترتيبها وشكلها ، بل إنه مَن يتّخذ مِن تلك الكلمات جسراً وممرّا للعبور إلى الضفة الأخرى، حيثُ تلك اللغة ، باحثاً  متأمّلا حيراناً  في كينونة أسرارها ومغزاها الدّفين .


إنّ هذا الصنفَ مِن القرّاء لا يجدُ النشوة إلا عبر التغلغل بين طيّات السطور ، وبين أصواتٍ قصيرةٍ وطويلةٍ اتّحدتْ فيما بينها ، لتخطّ كلماتٍ ولتكوّنَ الجمل ، لا ينتهي به المطاف إلى ظلّ الكلمات التي قد يصطدم بها من باب الصدفة ، وإنما يأخذ على عاتقه عهداً بتناول المِعول ، لإزالة كلّ ما قد يعيقُ وصوله إلى جذور الكلمات ، باحثاً عن سحرٍ قد ينحني بين تلك الجذور ، فباطنُ سطورها هو غذاء لتلك الروح التي تسكنه.


 إنها الحقيقة يا سادة ،فمثلاً، مَن يقرأ منّا لغة القرآن الكريم  ، مُتأملاً مُحبّا يجد طمأنينة تطفئ لهيبَ القلوب الذي يشابه حرّ الجمرات ، فكيف بمن يقرأ القرآن وهو عالمٌ بأحكامه وبلاغته وسرائره ومعانيه الجمالية؟؟؟!!!! هل لنا أن نصفَ مدى الشفافيّة والمشاعر التي يجدُ نفسه غارقًا فيها ؟؟


إنّ اللغة العربية سمةٌ من سمات الجمال الخاصة بعروبتنا ، وبصمةٌ تميّزنا عن غيرنا من شعوب الأرض ، فكيف لا نعطيها حقّها علينا ؟؟ كيف يمكن لأيٍّ منّا تهميشها وتنحيتها جانبا بعيدا عن مرونتها وقدرتها على العطاء دون حدود .


إنّها إرث العلماء ، وغنيمة الأحياء ، فكيف لنا أن نجعل منها قنديلاً ينيرُ ليلنا الكالح بالسواد؟


إنّ حبّكم للغة العربية هو الحَكَم في ذلك ، فمّن يعشقُ بصدقٍ وإخلاص يجدُ كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ سبباً لمضاعفة عشقه واستمراريته في الحياة .


نعم ، حريٌّ بنا أن نُنعم النظر في بديع اللغة العربية وكونها الوسيلة الأصيلة ، للوصول إلى الغاية الحقيقية للكاتب الذي وضع كل ما يملك من أحاسيس في تلك الزخرفة والرسومات ، وانتهى دوره هناك ، ليبدأ دور المتلقي في ساحة اللعب بالكلمات .


كُن سعيداً عندما تكتب ، وكُن أكثر سعادةً عندما تقرأ ، لا ، بل كُن فراشةُ ، وحلّق فوق الكلمات ، ابحث عن الجميل  منها ، وتذوّق كما تفعلُ النحلة عندما تركض باحثةٌ عن الزهر الفوّاح ، استمر.. ولا تيأسْ من البحث ، تذكر تلك النملة التي جثوتَ على الأرض تراقبها متعجّباً من نشاطها وعدم يأسها .


حاول تصيّدَ كلّ جميلٍ في لغتك العربية ، تماما كنسرٍ عظيمٍ يتلذّذُ بالنظر إلى فريسته ، ففيها كل ما تشتهي نفسه دون أدنى شك .


عالَمُ اللغة العربية عالمٌ فاض بألغازه ، وسيّر العلماء برغبتهم أو رغماً عنهم للبحث والكشف  عن أحداثه دون يأس .


تعلّم ألا تحكمَ على النص أو كاتبه من مجرّد القراءة ، بل تعلّم كيف توجّه نفسك ، وكيف تكون حكيما لنفسك ، كيف تجعل من لغتك سببا لنجاتك من كل ما قد يتسبّبُ في فشلك .


تعلّمْ كيف تُعَلّم مَن حولك جمال لغتهم وسبب ثقافتهم وتميّزهم واستمراريّتهم وحضارتهم رغم أنف الحاقدين المثبطين والمتحيّزين.


انظر إلى لغتك بعيْنِ العالِم الذي يستكشفُ دون رحمة لنفسه ، ودون النظر إلى السبب أو الأسباب ، اتّخذ من لغتكَ سبيلاً لنيلِ حرّيّتك .


 وكيف لا تنال حرّيتك وأنت حرّ بين حقول تلك الكلمات ؟؟!! تسرحُ وتمرحُ دون أن تنتظر إذن الدخول أو الخروج ، تملكُ مساحتك الخاصة بكلّ ما فيها ، دون حسيبٍ أو رقيب.


وفي نهاية هذه السطور ، لا يسعني إلا أنْ أقول : لا تتَقيّدْ ، هيّا انطلقْ  ... ودون تردّد .


                                                           


 

Post a Comment

أحدث أقدم