بقلم منال أبولاوي
إنّ الأمومةَ فطرةٌ غرَسها اللهُ في نفسِ كلّ أنثى تنبضُ أنفاسُها ، فقد كيّف اللهُ المرأةَ، لتكون أمًّا بكلّ ما جعلَ فيها مِن أسبابٍ مَكّنتها من أداءِ هذا الدورِ على أتمّ وجه .
ومِن هُنا ، فقد رسمتْ كلّ فتاةٍ الصورةَ الخاصةَ بأمومتها ، تلك الصورة التي قد تكونُ أحيانًا سببًا في قلّةِ حيلَتِها وضعفِها إزاءَ العديدِ مِنَ الخياراتِ المُتاحةِ أمامها .
إنّ العديدَ من هؤلاءِ الأمهاتِ يركضْنَ خلف أوهامٍ يرْسُمنها بحبرٍ منَ الخيالِ على أوراق الحياةِ، التي لا تقدّر غالباً تلك التضحياتِ والعذاباتِ بأشكالها ، فمنهنّ مَنْ يضعْنَ مِعيارًا خاصًّا بهِنّ حول كيفيةِ التضحيةِ بالغالي والنفيس وحتى بالرخيص والزهيد ، لتكونَ تلك الأمّ المضحيةِ المثاليّةِ دونَ أيّ مُنازع .
وهل تعلمون ؟؟؟ لا أزال اليوم أتذكّرُ أمّي في صغري ، كلماتُها وتصرّفاتُها التي لطالما تعجّبتُ مِن أمرها ، إذ كانت لا تشبهُ بقيّة الأمهاتِ ممّن كنتُ ألتقي بهنّ عند صديقاتي ، أو الأمهاتِ اللاتي كنتُ أرسمُ في عقلي الصغير صورةً غبيةً للتضحيةِ كما كنت أراها فيهن.
فأمّي كانت تضعُ خبزتها وصحنَها الصغيرَ على مائدةِ الطعام وتمنعُنا من الوصولِ إليه ، وكانت حريصةً على حصّتها من قطعِ الحلوى أيضًا ،وتؤكّدُ علينا دائمًا ، أنّ تلكَ حصّتي ويُمنع الوصولُ إليها ، فهي خاصة بها.
لم أكنْ قادرة على استيعابِ أمي وكيفيّةِ تفكيرها في تلك الأيام ، لكنّي اليومَ قد كبُرتُ وصرتُ أمًّا لخمسةِ أطفال ، ويا لها من نعمةٍ لا تُقدّرُ بثمن .
بتُّ اليومَ أسألُ نفسي تارةً تلو الأخرى ، هل أنا أمٌّ مثاليةٌ ؟؟، هل أنا أمٌّ مضحيةٌ فعلًا؟؟ أمْ أنّ أفكاريَ العنيدةَ لا تريحُني ، فأنا أجدُ الكثير من تصرفاتِ أمي التي كنتُ أنتقدُها في تصرفاتي ، نعم يا امي ، لقد كنتِ فعلاً تدركين جيّدًا كيف تكونُ حدودُ التضحية .
فالأمّ المضحيةُ قد تكونُ سبباً رئيسًا في تعاسةِ نفسِها أحيانا كثيرة ، وتعاسةِ أطفالها أيضًا ، ويراودُني هنا سؤالٌ عميق ......كيف ذلك ؟؟ وقد رسم العالمُ صورةً لتضحياتِ الأمّ ومَجّدها وجعل منها الأسطورةَ فعلًا؟؟؟؟ .
لقدْ فهمتُ اليومَ أنّ مفهومَكِ لمعنى الأمّ المضحيةِ بحذافيره الحقيقيّةِ وحدودهِ المنطقيّةِ هو السعادة بحدّ ذاتها ، فأنا لن أكونَ تلكَ المضحيةِ... إنْ قدّمتُ صحنَ طعامي لطفلي الصغير المُدلّل ، لن أكونَ تلكَ المضحيةَ التي تُضحّي بوقتها فقط ،لإسعادِ أطفالها .
أين أنا منْ تلكَ المعادلة ؟ هل أنا بمثابةِ سينٍ أو صاد ؟ هل أنا مجهولةُ الهُوِيّة ؟؟ أم أنّني الجوابُ الذي ينتظرهُ مَنْ يحلّ تلك المعادلة ؟؟؟؟
أنا اليوم أمّ موظفةٌ.. وأفتخرُ كوني أضعُ نفسي ضمن أولويةِ الأولويّات ، وأجعلُ منها قيمةً يقتدي أبناؤها بها دونَ تفكير ، أُعَلّمُ بناتي حدودَ التضحية ، لتكونَ كلّاً منهُن أُمّاً معطاءةً بنّاءةً لا تقيّدها القيودُ الوهميّةُ التي تصنعُ الأمّ المثاليةَ الأسطوريّة ، فنحنُ خُلِقنا ، لنسعدَ أوّلًا ثم نسعى لسعادةِ مَن حولنا .
كيف لنا أنْ نجعلَ من الآخرين شموعًا تُضيء سراجها ، ونحن نعجزُ عن إشعالِ شموعنا أولًا ؟؟!!
إن كنتِ حريصةً فعلًا على عطائك لمن يهمّكِ ، قدّري نفسَك أوّلًا ، أعطِها ما تحتاجُ من مساحةٍ خاصةٍ بها ، دلّلي نفسَك بفنجانٍ من القهوة ، أغلقي الباب على نفسِك بُرهةً من الزمن ، فلن ينهارَ العالم ، تأكدي أنّك ستحظيْن بالاحترام يومًا ما ، وسيفهمك الجميعُ في لحظةٍ ما .
كوني تلك الأمّ المضحية التي تبحث عن سعادتِها قبل سعادة الآخرين ، وتساءلي دومًا : كيف لي أنْ أبني وأبني وأبني وأنا مُنهكةُ الجسد ، أشتهي أقلّ الأشياء وأُفضّلُ إيثارها لأبنائي؟؟!! .
انظري لنفسكِ بعينِ الرحمةِ دونَ غيرك ، لا تنتظري أنْ ينظرَ إليك أحدٌ نظرة إشفاق ، لا بدّ أنْ تحقّقي طموحَكِ وتخلقي لنفسِك عالَمَكِ الخاصّ المليءِ بالحبّ والعلاقاتِ الناجحة المُريحة .
لا تبخلي على نفسِكِ بحقيبةٍ باهظةِ الثمن ، ولا بحذاءٍ كعبه عالٍ ، تأنّقي وازدادي جمالًا ، فكلما زاد جمالك وزاد علمُك وطموحُك ، كلّما أدركتِ حقوقك وحقوقَ أبنائك بالطريقةِ الصحيحة .
ذكّري نفسَك دائمًا ، بأنّكِ تستحقينَ الأفضل ، تذكّري أنك اليوم تصنعين أمّ المستقبلِ ، فطفلتك المدلّلة قد تنظرُ إليك اليوم على أنّك أنانيةٌ نوعًا ما ...... لكنْ أعدُكِ ... سرعانَ ما ستتفهّمكِ وتدركُ جيّدًا أنّ أمّها هي الأمّ المضحيّة نفسها ، وستميّز بوعيِها وإدراكِها أنها حجرُ الأساسِ الذي لا بدّ لهُ أنْ يضعَ نفسَهُ في المكانِ الصحيح .
يكفينا تجاهلًا لحقوقنا ، فاللهُ جعلَ لكلٍّ منّا قلبًا يتّسع هذا العالم ، ألنْ يجدَ لنفسِه مكانًا في ذلك العالم .
ابحثي جيّدًا عن نفسِك أوّلًا ، لتبني أسرةً تُقدّرُ تلكَ الأمّ ، وترسمَ صورةً واضحة المعالم لعنوان الأمّ المضحيّة السعيدةِ التي ستضعُ قواعدَ ثابتةً للأمومةِ من منظورِها الخاص ، دون أنْ تضعَ اعتبارًا لمنظورِ الآخرين ،
تذكّري جيدًا ، أنّ ألمًا بسيطًا في ضرسِكِ يجعلُكِ طريحةَ الفراش ، عاجزةً عن تقديمِ أيّةِ خدمةٍ لعائلتكِ الصغيرة ، كوني حريصةً على اهتمامِك بنفسِك أوّلًا ،وكلُّهم ثانيًا ، لتتمكّني من تكثيفِ العطاءِ لأسرتك وقيامك بمهماتك دونَ مبالغةٍ أو تكلّفٍ أو عناء .
تذكري دائمًا أنك تستحقّين الأفضل ، وأنك ستكونين الأمّ المضحية السعيدة ، المضحية بالحدود التي رسمَتْها ووضعَتْها ...هي ...لا غيرها .... وجعلتْ منها نبعًا في عطائها... دونَ أنْ تكونَ سببًا في جدب أرضِها.
إرسال تعليق