أرجوحتي اليتيمة.

 


الكاتبة نسرين الحميدي 

لا يمكنك المضي نحو الحياة دون أن تكبلك القيود. قلبي أرجوحة طفلة، كيفما دفعتها، حلقت في السماء.  
المحبط في الحكاية أنني أعرف أن هذا التحليق خطر. من الممكن أن ينقطع الحبل وأهوي في وحدةٍ ثقيلة، أثقل من أن أتجاهلها، أو أن أرمي بنفسي وأفرد ذراعيّ متجاهلة العواقب.
لو أردت قتلي! حاصرني بالروتين. أو روّض رياحي لكي لا أجرّب أن أطير.
نزعت رداء اللعب وارجوحتي الحبيبة وارتديت ثوب الزفاف الأبيض، لا أنكر أنه  في وقتها كان حلمي الذي رسمه لي المجتمع، واقنعني بأنه السبيل الأمثل للتحليق.  
وبعد سنة، أتممت من العمر الثامن عشر وأنا أحمل طفلتي الأولى. كانت بمثابة دمية جميلة، استبدلت بها مرجوحتي وباقي العابي، لكن الذي بقي عالق في ذهني وقلبي، تلك الرياح التي لطالما دفعتني لأطير.
قرّرت أن أضمّ طفلتي بين ذراعيّ وأعود لأرجوحتي أحاول التحليق فيها، بعدما كنت أراني غيمة تطفو حرةً، وجدت نفسي طائراً مكسوراً،  كرّس حياته للعناية بصغاره وتعليمهم الطيران، لكي لا يسقطون وتنكسر اجنحتهم مثله.
أصعب شيئين يمكن للمرء أن يعيشهما، هو خسارة ما يريد، أو الحصول عليه.
دائما ما كنت افكر، ما الضرر لو حولت هذا العش الصغير الذي زاد عليه عصفورتين، إلى سفينة تحملني واطفالي للإبحار واجتياز القارات!
كنت أرى صديقاتي اللواتي حصلن على أحلام غير حلمي المزيّف، يفكرْن بطريقة مختلفة وطموحاتهن لا تشبه طموحي. طموحي الذي كان ينحصر في الحصول على منزل مثالي  وزوجٌ راضٍ عن  مائدة الطعام، التي لم تكن تخلو من لمساتي الفنية المدفونة، وهواياتي التي اكتشفتها من خلال واجباتي.  
كنت اطفو كخشبة بلا وزن. تارةً تصارع العواصف، وتارةً تسبح بهدوء، تلامس مياه البحر المالحة الشقوق التي حفرتها عليها الايام. فكلما حاولت فتح دفتري لأكتب فيه طموحي وخططي، التي ارسمها للوصول إلى جزءٍ بسيط من حلمي، كانت تثقل يدي المسؤوليات، تنزع من يدي القلم كأمٌ جاهلة تشد ذراع ابنتها قسراً  وتردد "أنتي مكانك المطبخ لا أكثر".
وفي لحظة يأس، كسرت قلمي بيدي، فجرحتها،  فتلوّنت دون انتباه متحوّلة إلى لوحة تشكيلية. عندها قرّرت أنّني بدلاً من أن احترق.. سأصبح شمساً، املأ يومي بكل الاشياء التي تساعدني على التقدم! أرسم، اقرأ، اكتب. ثم يأتي الغروب، ومثل اي شمس ثقيلة، أغرق في بحر مسؤولياتي مجدّداً.  
حاولت مراراً تنظيم وقتي، لأكون ربة منزل في بيتٌ مرتب، ومعلمة لأطفالي، وزوجة محبة، وسيدة مجتمع، وأم تحتوي صغارها في أي وقت، مع كوني فتاة مازالَ عالقٌ في رأسها حلم "دخول الجامعة".  

فأجد نفسي أركض في متاهة لا تنتهي، يخيّم فوقها الروتين القاتل، يحولني إلى روبوت، يحاول إنجاز اكبر عدد ممكن من الأوامر.
أجد نفسي منهكة من يومٌ طويل مكومة على أريكة، خالية تماماً؛ كلما احاول أن المسني المس الفراغ.
أغوص في أعماقي خائفة، أبحث عن أحلامي. هل يعقل أن أكون قد خسرتها في حروبي اليومية، بينما كنت أقاتل على جميع الجبهات؟
مضى من عمري أربعة عشرة عاماً، اتّخذ دور الجندي المجهول، الذي يصنع النصر ويرفع به من حوله وهو متواري عن الأنظار. ما جعل تفوق أطفالي، أهم الإنجازات التي أسعى إليها.
أمرّر أصابعي بين خصلات شعر طفلتي، وانا أحيك لها ضفيرتها وأحكي لها حكايتي، وأطلب منها أن تحقق حلمي! فهي الوحيدة التي لطالما كانت سعادتها اهم من سعادتي.

2 / 2
بدأت أنضج مثل شجرة في بيت قروي كلما كبرت تشبثت في الأرض أكثر. رغم الفصول الأربعة التي أمرّ بها، كنت تراني تفاحة لاح احمرارها، ثم تراني اتمسك بكل قوتي كي لا أسقط بوجهٍ أصفر شاحب، ثم أعود زهرة بيضاء كإسمي.
يراودني الخوف دائماً أن أكون فعلاً شجرة، فأنا لا أريد لكتاباتي أن تكون وحيدة في مذكرة، أنام بين حروف بائسة كالمنزل في المقبرة.
لا.. هذه ليست أحلامي.
في البداية، جبلت حزني وتعبي بماء، وبنيت مرسماً ارسم فيه لوحاتي.  
كسرت ناب الذئب الذي اخافني يوماً، لأجعل منه قلماً اكتب فيه رواياتي.
تعلمت كيّ الجروح، لاعتاد التعب. فانا أفضل أن أكون موجودة اكثر من مفيدة.
أحب تلك الصغيرة، لكن يجب أن أكبر، وأقف فوق جبل الخسائر وحدي انتشل بقايا حزن قديم، حنين للماضي، شعور الحاجة الذي كان يتملك قلبي، فأركض حافية ارتشف الحب من سيل جارف.
كل حزن انتشلت بقاياه من قلبي، لم يكن خسارة. فحجم الحزن يتناسب طرداً مع قوة الضربة، التي دفعتني لأحاول التحليق دائماً.
كل بؤس سيطر على قلبي باستطاعتي هزيمته.  
كل ظلم شوه ملامح طفولتي ودفن الأمان داخلي، سأتجاوزه وأمضي لأقلب مقبرة أحلامي الى حديقة انصب فيها مراجيحاً، تشبه أرجوحتي اليتيمة.
نعم إنها يتيمة، فانا أكثر من يعرف معنى اليتم. لقد فقدت أمي في الثانية من عمري، تركتني أكبر وحدي، أسقط وانهض وحدي، أمرض وأمسح يدي على جبيني، أكبر وأتعلم وأحلم..
الآن، أتمنى  أن أتخلّص من كل مّا يُقلقني، وأن أنضج أكثر مما أنا عليه. ببساطة، ألّا أعطي للأشياء أكثر من قيمتها.
أن أكون كما أحب ليس  كما يُريد الجميع. أن أسير لنهاية كل التجارب بثبات وسلام.
والأهم، ألّا أفقد القُدرة على المقاومة، لحين الوصول إلى  
الحياة التى أفنيتِ عُمري لأعيشها.
أخيراً وانطلاقا من أملي.. لن اكتب نهاية لقصتي فكل نهاية، هي إمتداد أبدأ به من جديد.
 







Post a Comment

أحدث أقدم