الكاتبة د. رماح عبدالجليل
ما يزال يأتي بمخيلتها ما إن تسمع أيّ أغنيّةَ حبٍ تبثُها الإذاعة.. تحب كون أنه راقصها على تلك الألحان الفيروزية في أيّام عديدة، وباح لها مرارًا بأنها حبيبته الوحيدة.. هي تحبه بشدة وتحب ثمرة حبهما التي تراها تحبو أمام ناظريها الآن.
ورغم انطواء سنة ونِصفُها، إلا أن جراح روحها لم تندمل،
بل تلتهب بين الفينة والأخرى، خاصة حين يبوح لها قلبها بأنه ما عاد يحتمل ألم فراقه، ولا تعرف كيف لجراح قلبها أن تُضمد من دونه، فتظل تبكي بحرقة، وتلوم نفسها كلما تذكرت ذلك اليوم في أسبوعهما الأول والأخير معًا، وقتها انقطعت عن الحديث إليه لمدة يوم كامل، فقط لأنه في كل مرة كان ينسي أن يحضر لها باقات الزهور التي طلبتها مرارًا.
اليوم تُعلّم ابنها المشي، ترافقه في خطواته، وتتعمد أن تشغل وقتها؛ حتى لا يجد الرجل فراغًا يتسلل عبره إليها..
تنهمك في العناية بطفلها وأعمال المنزل، خاصة تنظيفُ الأواني، تمسك بالإناء، تقربه إلى أنفها فيعبس وجهها مشمئزًا، تفعل هذا مع كل إناء على حِدا، لا تقتنع أن الأواني نظيفة رغم لمعانها، تعيد غسلهم لعشرات المرات في محاولة منها للتخلُص من تلك الرائحة العالقة بهم، وحين يسيطر عليها التّعب، تتوقف عن تلك الأفعال، تحرص بعد كل غسيل أن تشم يديها، وفي كل مرة كانت تجد ذات الرائحة، فتغسلهما بالصابون مرارًا وتكرارًا،
بعدها تقصد فراشها طلبًا للنوم بقرب صغيرها.
وبنفس الطريقة التي كانت تتأمل بها وجه ذلك الرجل وهو غارقٌ في النوم، صارت تقضي دقائق قبل النوم لتتأمل وجه طفلها، تُقبل أصابعه الصغيرة وجبينه، تشم رائحته العطرة، تتأمل تفاصيل وجهه أكثر، عينين مغمضتين بنيتين، أنفٌ طويل، حاد وجميل، ووحمة سوداء أسفل رقبتِه، فتحشُرها تلك الملامح في كومة من العذابات.
هي كانت تظن أنها نجحت وتجاوزت تلك الأيام المريرة، متناسية سحر كوب الشاي الصباحي برائحة القرنفل، وصوت الإذاعة.
كانت زهرة قد نظّفت يديها، ورغم ذلك تجد أثر الرائحة عالق بثيابها، تسارع لتنزع عنها ملابسها، فتتعرى تلك الهشاشة الكبيرة التي تسكن دواخلها.
تستعد للنوم، تقرّب حضنها من الصغير حتى يستشعر دفئها، لكن ما إن تضع رأسها على الوسادة حتى يتسلل إليها ذلك الشعور الذي يزيل عنها تعب النهار كلّه ويجلب لها دفئها الخاص، تحسّ أن رأسها إنما تضعه على صدر ذلك الرجل لا على الوسادة..فتغمض عينيها وتبحر نحو شاطئه البعيد، تظل تبتهج لموج الشعور وهو يتلاطم في مجرى دمها، تهرب من تلك الرائحة الزفِرة، وتسبح صوب حُبها ورائحته العطرة.
تفتح زهرة ذراعيها له وتركض، إلا أنها تَغْْرق في دوّامة بحره العميق ما إن تتذكر قوله..
” آسف حبيبتي، لم أجلب لكِ الزهور اليوم أيضًا “ .
قالها فاتهمته بأنه لا يُحبها ولا يهتم، وكعقاب له يومها انقطعت عن الحديث إليه ليوم كامل ولم ترغب في سماع تبريراته، عاشت معه أسبوع فقط، أهدرت فيها يومًا كان يمكنُ أن تصنع فيه معه أكثر من أربعة وعشرون ذكرى.
في غمضة عينيها الناعستين، تطرد زهرة تلك الّلحظات عن فكرها وتستحضر فقط كلماتهما الأخيرة، ثم تغوص مجددًا بعمقٍ نحو الشعور الأول الذي كان أقرب للحقيقة منه إلى الوهم، شعورٌ بأن الرجل قريب منها للحد الذي بوسعها أن تميّز فيه رائحة جسده بين الروائح العديدة التي تغزو أنفها، وبوسعها أن تحتضنُ يده كما تحتضنُ الآن يد الصغير، وأن لها فيه بعضُ الأمنيات.
هي توقن أن مشهد لقاءها به مجددًا لن يحدث إلا داخل محيط عقلها المتلاطم بزوبعة تلك الأفكار، فلقد غاب ذلك الرجل من حياتها وترك لها وجع الذكرى، وتعرف أنه ما مِن شواطئ آمنة قُبالة ذكرياتها معه.. ورغم خديعة الوهم إلا أنها بقيت تصدق حقيقة الشعور الذي يصنعه، إذ لا يمكنها سوى أن تستسلم لهدير موج الحب الذي ينسج لها نشوة فارقتها منذ رحيله عنها صباحَ يوم سَبْتٍ صيفي حزين.
لكن لا تستمر سعادة زهرة طويلًا.. فسرعان ما يتلاشى الشعور ويختفي البحر والشاطئ معًا حين تغشاها رائحة السّمك التي لا تدري من أيّ منفذٍ سبحت إليها فغزت أنفها وضايقتها، باتت تكره تلك الرائحة بشدة وتنفر منها، وكأنّ الرائحة تسحب عنها الهواء بعيدًا، وتُغرقها، فتختنق ثم تفتح عينيها.. تمتلىء عينا زهرة الصغيرتان بدموع مالحة كسراب البحر الذي لفظها، فتفتحُ عينيْها على حقيقة أنّ ابنُها استيقظ باكيًا فزِعًا من صوت شهقتها.. ورجُلها الآخر غير موجود.
تغمر زهرة صغيرها بحنانها، ترضعه حليبها، فيغمض عينيه من جديد آمنًا بدفئها، أما عيونها فتأبي النوم، بعد أن قرر البحر الغاضب أن يبتلع سعادتها قبل أن يلفظها لآخر مرةٍ على رمال الشاطئ.
تستمر زهرة تبكي في صمتٍ لا يشبه بكاء الصغير، ينقبض فؤادها بشدة.. فتنام بدموعٍ تُبلل خديها والوسادة.
وقبل أن ترسل الشمس خيوطها، تستيقظ زهرة بذات العينين الواهنتين، والجفنين اللذين يعانيان من الانتفاخ، تغمر رضيعها النائم بقُبلة حانية قبل أن تتركه وتتسلل من فراشها نحو مطبخها. وهناك، تقصد موضع جهاز الراديو، فتضبط موجته على تلك الإذاعة وهي تلهثُ بحثًا عن سعادة جديدة تصنعها ذكريات قديمة.
تظل تردد ألحان فيروز، وتتراقص عليها، فتغمرها سعادة بالغة وهي تعد لنفسها كوبًا من الشاي الساخن، يسير كل شيء على ما يرام حتى تضيف بيدها بضع قُرنفلاتٍ إلى الماء الساخن.
شاي القُرنفل في كل مرة يجعل ذاكرتها تعيد كرّ شريط يوم آخر من ذلك الأسبوع الذي عاشته مع رجلٌ يعشق الشاي حين تُقدمه له بهذه النّكهة تحديدًا.
تصب زهرة الشاي، ثم تجلس على الكُرسي لتحتسي الذكريات.
تعود بذاكرتها إلى صباح اليوم الأخير، وتحديدًا في ذلك الصيف من السنة قبل الماضية، حين سألها:
_ ماذا سنأكل اليوم يا زهرتي؟
فأجابته دون تردد:
_سمكٌ مشوي.
تنهمر دموع زهرة بغزارة وهي تستذكر ردّه مع أول رشفة من كوبها، هو لم يكن يُحب السّمك.. وأول مرة أكل فيها سمكة كاملة كان في اليوم الأول من زواجهما حين كانا يقضيان شهر عسلهما أو بالأحرى أسبوع عسلهما فحدث فجأة وتقلص شهر حُبهما ذاك إلى أسبوع.
تذكر أحداث تلك الساعات الأخيرة، حين حاولت إقناعة أن الأوميغا ثلاثة التي يحتويها السَّمك مفيدة للصحة والذهن، وأنه حين يأكله لن ينسى مجددًا طلبها بأن يشتري لها عشر باقات من الورد لتزين بهم المنزل، يومها نظر في عينيها مليًا وكأن سحرهما جعله يعيد التفكير بشأن أمر ما، ثم تركها وذهب دون أن يلفظ بكلمة.
تعجبت زهرة لسلوكه، وبقيت تنتظر عودته، ثم سرعان ما أتاها بأكثر مما طلبت، ابتهجت زهرة لباقات الورد والزهور التي جلبها،
وساعدته في إدخالها، لاحظت يومها أنه يسعل، فظنت أنه مصاب بالبرد، لكنه طمئنها بأنه سيكون بخير، وطلب منها:
_ هيا يا عزيزتي، ناوليني صنارتي وعدّة الصيد.
وما إن دلفت زهرة، حتى أخرج من جيبهِ قرصًا لدواء كان قد أحضره معه من الصيدلية التي في طريق محل الورد.
تضع زهرة الكوب الساخن من يدها وتقصد المكان الذي كانا قد وضعا فيه تلك الباقات..
تنظر إلى الورد الذابل مثلها، والأوراق التي كانت بالأمس خضراء صارت منذ زمن صفراء وجافة، تمسك إحدى الباقات ترفعها إليها، وبحرقة ترميها على الأرض، تسحق بيدها الزهر الجاف، فيخدش أصابعها، تُقسِم أن تحطم كلّ الورد والباقات، لم تعد تحب الورد بعد ذلك اليوم ولن تحبه، وستتخلص من هذه الشحنة التي طال بقاءها في منزلها بغير داعٍ، فتطأ برجلها الزهر اليابس في غضب،
يؤنبها ضميرها، فتجلد نفسها بصفات الأنانية والغباء.
تظهر آثار دماء من تحت قدمي زهرة بعد أن خدشتها قطعة فخار حادة في قدمها اليُمنى فتصرخ..
هي لم تكن تصرخ بسبب ألم جسدها فقط، ولكنها آلام روحها استيقظت مجددًا لتوجعها أكثر.
تسمع زهرة بكاء الطفل مذعورًا، تخرس صوتها، وتسارع بألمها نحو الصغير، تحمله بين ذراعيها، وتهدهده. طفلها لا يعرف جراح يدها ولا قدمها لكنه يصرخ لصراخها، تخاف زهرة حين يكبر أن يسألها.. لماذا يومها طلبتي السّمك دون غيره من الأطعمة!؟
لماذا لم تطبخي أجنحة الدجاج التي كان مغرمًا بها أبي، وطال بقاءها في ثلاجتك.
كانت ثلاجة زهرة يومها مليئة بالخضروات، واللحوم بأصنافها، لكنها قالت..”سمكٌ مشوي“.
لا تجزم هل تعمدت ذاك الطلب حقًا أم أن الأقدار أجرت الكلمات على لسانها..
إن ذلك اليوم جعلها تكره أشياء كثيرة، كالورد ونفسها.
أجل كرهت زهرة نفسها، وكرهت السمك أيضًا حتى التغيرات الهرمونية التي أتت باكرًا بعد ذلك، جعلتها تنفر من السّمك ورائحته.
فبعد شهرٍ من ذلك السبْت الحزين، زفّ إليها الطبيب ذلك الخبر..
_ سيزيد عدد اولئك الذين تحبينهم يازهرة.. فردًا.
ورغم أنها كانت تتوق لذلك النوع من البُشريات، إلا أنها أدركت أن الخبر لم يقودها إلى تلك السعادة التي تخيلتها، بل قادها مباشرة إلى باب كبير من الحزن فغياب نصفُها الآخر في هذا المشهد الذي يتطلب زوجين لسماعه، غيّب عنها روعة الشعور.
تتساءل..
_ هل كان الطبيب ماهرًا حقًا في الحساب!
الآن تجزم أن الطبيب اخطأ في جُملته، فالحساب غير دقيق تمامًا.
تضع ابنها على السرير، تجلس زهرة بركبتيها على الأرض تعبث بخصلات شعره متناسية نزيف رجليها، وخدوش يدها الأخرى، فيجرفها تيار عارم يقودها إلى أمنية قديمة، فلقد كانت العروس تتمنى أن تزف إلى عريسها نبأ حملها، فتخيلت مدى سعادته بفرد العائلة الذي صار بين يديها الآن، لكن أن لا يسمع الأب أنه سيكون أبًا، هي جراح مؤلمة، لا تحتملها.
تقوم زهرة، تخطو مجددًا نحو ذاك المكان، تلملم الفخار المكسور، وتتخلص منه في كيس النفايات، وبينما تحاول أن تداوي جرح قدمها، تتذكر جملته..
”استسقته من أجلكِ، وسأصطاده من أجل عينيكِ يا زهرتي“
ها هي ذي زهرة تعيد السؤال لكن بطريقة مختلفة..
إن لم ترغب يومها في الأطعمة المتوفرة في ثلاجتها، لماذا لم تطلب البيتزا المُولعة بها من ذلك المطعم الذي يكون أسفل بيتها؟.
ولماذا هو حين سمع رغبتها في طهي السمك، حمل أمتعته على فوره وذهب إلى البحر ليصطاده خصيصًا لها، لماذا لم يقل لها..” ليس مجددًا يا زهرة، لا أُفضل تناول السمك“.
وقبل أن يمضي حُبها مبتعدًا بخطواته إلى البحرِ، لفتها، فصاح قائلًا وهو على مسافة منها:
” زهرتي الحُلوة“.
فصاحت بدورها:
_ نعم، يا قلبُ زهرتك.
فقال بذات نبرة الصوت العالية:
_ أعرف أنكِ تحبين الزهور يا حبيبتي، لكن يجب أن تعرفي أنني لم أنسَها، لكنني فقط أتحسس منها قليلًا.
ومضى والبسمةُ في شفتيه بادية.
تنزل دموع حارة من عينيْ زهرة الذابلة...
لم تعد بعده زهرة مُتفتحة، تعتقد أنها ذبُلت يوم أن كان الماءُ غاضبًا من أنانية الزّهر..
ظلّت زهرة يومها تفكر في طلبها، ومن غير طول تفكير قررت أنهما سيعيدان شحنة الزهور إلى المحل، وبقيت تنتظر عودة حبيبها عند باب البيت حتى نامت، وما أيقظها إلا الصيادون حين أتوا لينبئونها برحيله!!
إرسال تعليق