قراءة لنص "التمساح" للأديب اللبناني إبراهيم ياسين

 


 للكاتبة سمية الإسماعيل / سورية


التمساح

لم أعرف من قبل حبّة دواء بهذا الاخضرار. لا أتكلّم هنا عن خضرة الأعشاب والأشجار التي نصادفها كل يوم. كان لونها أغرب من كل هذا حتى أنني شككْت بوجود هذه الدرجة من اللون الأخضر في الطبيعة. كنت كما الغريق الذي "يتعلّق بقشّة" مضطراً لتجربة أي شيء جديد لعلاجي من فرط الانفعال الذي بدأ يحوّل حياتي إلى جحيم بعد أن فشلتْ جميع البدائل العلاجية وما أكثرها بين يدي رجال الطب والدين على حد سواء.


شيءٌ خفيّ دفعني للوثوق بهذا الشيء الغامض. ربما الغموض بحدّ ذاته يملك غوايةً لا تملكها الأشياء الواضحة. حتى الطبيب الغامض ذو العيادة الغامضة في الحيّ الغامض بدا شديد الإقناع وهو يناولني الحبة بتأنٍّ وهو يوصيني ويضغط على كلماته "احذر الآثار الجانبية!"


كان ابتلاع الحبة أول عملٍ أقوم به في الصباح التالي. ومثل كل اللاهثين خلف معجزةٍ ما، انتظرْت مفعولاً سحرياً في اللحظات الأولى، كأن يولد بداخلي إنسانٌ جديد أو أن أشعر بجدارٍ داخليٍّ سميك وُلِدَ لتوّه لتحصيني من كلّ ما في الخارج، بيد أن أيٍّاً من ذلك لم يحدث.


كان شرطيّ المرور الذي خالفني وأنا في طريقي إلى العمل؛ الاختبار الأوّل للحبة، وأشهد بأنها نجحتْ نجاحاً باهراً آنذاك. لم تراودني المشاعر المعتادة يومها، بل على العكس من ذلك لم يُثِر المشهد فيّ أي انفعال يُذكر. بدا وكأنه مشهدٌ تلفزيوني وأنا أشاهده من على كرسيّ السائق.


حتى عندما وصلْت متأخراً إلى الدوام، راحتْ توبيخات المدير تنهال عليّ برفقٍ وكأنها رذاذ مطرٍ ربيعيٍّ هادئ وهو الذي اعتاد على شحذ عباراته الحادة وتفخيخها بأقوى الكلمات اللاذعة.


حتى صاحب البقالة الذي قابلْته في طريق عودتي إلى البيت بدا وكأنه يُطلعني على لوحةٍ فنيةٍ فائقة الروعة وهو يرفع بوجهي صفحةً من دفتر الحسابات المحشوّ برسوم وأرقام لديونٍ تراكمتْ عليّ ولم اسدّدها حتى اللحظة.


دخلْت المنزل وأنا أصفّر لحن إحدى الأغنيات الشعبية. لم أتذكّر متى صفّرت آخر مرّة، ربما حين كنت صغيراً يوم نهاني والدي عن ذلك بحجة أن التصفير يستدعي الشياطين ويطرد الملائكة. دخلْت الحمام لأغسل وجهي على إيقاع المقطع الثاني من الأغنية. نظرْت إلى المرآة وشاهدْت بفزعٍ ما اعتقدْت أنه أولى الآثار الجانبية.


بدا وجهي مائلاً إلى الخضرة الداكنة وفمي أطول من حجمه المعتاد حتى كاد أن يلمس المرآة. صرخْت بفزعٍ فبانتْ أسناني للحظة. كانت طويلةً جداً وحادة أكثر من العادة وجاهزة لتقطيع طعامٍ أقسى بعشرات المرّات من وجباتي المعتادة. نظرْت بهلعٍ أتفقّد أيّة تغييراتٍ أخرى في بدني فهالني جلدي بسماكته المستجدّة وشكله الجديد المقطّع إلى مستطيلاتٍ متراصّة كأحجار القرميد.


هرعْت إلى غرفة النوم لأبدّل ملابسي كي أقصد عيادة ذلك المجنون لأفرغ بصدره بضع رصاصاتٍ علّني أخلّص الطب والبشريّة على حدٍّ سواء. عانيْت بشدّةٍ أثناء إدخال رأسي الجديد في فتحة القميص الضيقة. غير أني ما استطعْت بشتّى الوسائل ارتداء البنطال الذي حال بينه وبين جسدي ذيلٌ أخضر طويل انبثق لتوّه مختتماً سلسلة الآثار الجانبية للعقار.


هبطْت إلى الشارع وأنا أقاوم بطء مشيتي الثقيلة التي أصبحت على أربعة أطرافٍ بدلاً من اثنين. جميع من كانوا في الشارع راحوا يشيرون إليّ بذعر. بعضهم لم يفوّت التقاط اللحظة لتوثيقها على جوّاله، والبعض هرّب أطفاله من المكان خشية هجومٍ مباغتٍ مني، بينما أخذ البعض يطالب بإخطار السلطات فوراً لإرجاعي إلى المكان الذي أُفلِتُّ منه.


حضر أخيراً بضعة رجالٍ بأزياء خضراء تشبه جلدي إلى حدٍّ كبير. أطلق أحدهم عليّ طلقةً مخدّرة كانت كفيلةً بأن أنغمس في ظلامٍ دامس لفترةٍ ما زلت أجهلها.


أستيقظُ اليوم ككلّ نهارٍ في مستنقعي الجميل الذي أُنشئ  خصيصاً لي ولأقراني على تلّةٍ رابضة على كتف الطريق السريع. يلوّح الأطفال لنا من سياراتهم فلا نشعر كالعادة بأي انفعالٍ يُذكر. تعرّفت على الكثير من الأصدقاء مذ حضرْت إلى هنا. بدا الكثير منهم مألوفاً لي. لا شكّ أن زبائن ذلك الطبيب المجنون كانوا كُثُراً؛ ولا شكّ أنهم في ازديادٍ مستمر.


أذرع أرجاء المكان وصولاً إلى السياج المعدني الفاصل بين المستنقع والطريق. أراقب السائقين بشماتةٍ والحياة تطبع على وجوههم شتى أنواع الانفعالات. أعود إلى المستنقع ثمّ أحبس نفساً عميقاً بصدري وأغوص في الأعماق مغمضاً عينيّ وفي ذهني يتردّد صفيرٌ للحن أغنيةٍ أحبّها بشدّة.


القراءة


رمزية العنوان ولماذا اختار هذا الحيوان بالذات؟

يحمل العنوان “التمساح” دلالة رمزية قوية، إذ يرمز التمساح إلى عدة معانٍ، منها:

البرود العاطفي وعدم التأثر: التمساح كحيوان يتميز بملامح وجه غير متغيرة ويبدو دائمًا غير متفاعل مع محيطه، مما يتناسب مع التحول العاطفي الذي طرأ على البطل بعد تناوله الحبة.

القوة المتوحشة والافتراس: مع أن التمساح قد يبدو ساكنًا، إلا أنه قادر على الانقضاض بوحشية عند الحاجة، مما قد يرمز إلى المجتمع الذي يفقد إنسانيته و قد بصبح قاسياً ومتحجراً، و هذا ما ينبئ بنارٍ تحت الرماد.

البقاء والنجاة: التماسيح من أقدم الكائنات الحية، مما قد يعكس فكرة التأقلم القسري مع الظروف التي يفرضها المجتمع أو العلاج الذي خضع له البطل، و الذي بدوره طال أفرادًا آخرين بحيث أصبح أمرًا شائعًا و حالةً متفشيّة.


في علاقة العنوان بالمتن:


لم يكن العنوان مجرد إشارة إلى التحول الجسدي الذي أصاب البطل، بل هو تعبير عن حالته النفسية والعاطفية. فكما أن التمساح يبدو بلا مشاعر، فقد تحوّل البطل إلى كائن منزوع الانفعال. وهكذا، فإن التماسيح الأخرى التي التقاها في المستنقع هي رموز لأشخاص فقدوا حسهم الإنساني وتحولوا إلى كائنات باردة بفعل نفس التجربة.


فالقصة إذًا تتناول فكرة فقدان المشاعر الإنسانية كنتيجة لحلّ طبي/مجتمعي مزعوم لعلاج “فرط الانفعال”. الرسالة تكمن في التساؤل: هل الحل لمشاكل الإنسان العاطفية هو فقدان المشاعر تمامًا؟ ألا تكون الحلول الجذرية أحيانًا أسوأ من المشكلة ذاتها؟

ينتقد الكاتب أيضًا سعي البشر للهروب من مشاعرهم بدل التعامل معها، ويندد بمجتمع قاسٍ يجعل المشاعر عبئًا على الإنسان، إلى حد يدفعه إلى قتل جزء من نفسه ليتمكن من العيش.


و السؤال هنا ما معنى التحوّل الذي طرأ عليه بعد تناوله للحبّة الخضراء؟


إن هذا التحول إلى تمساح لم يكن مجرد تغير جسدي، بل كان رمزًا لفقدان القدرة على التأثر والانفعال. فهو لم يعد يغضب، لم يعد يشعر بالإهانة، ولم يعد يتفاعل مع الضغوط اليومية كما كان من قبل. هذا يوحي بأن “الحبة الخضراء” لم تكن علاجًا، بل وسيلة لنزع هويته العاطفية وتحويله إلى كائن “وظيفي” في المجتمع، يؤدي أدواره دون شكوى أو تأثر.


و هذا يأخذنا لطرح سؤالٍ آخر ، ما رمزية الأغنية التي يدندنها؟


التصفير واللحن الشعبي المتكرر يرمزان إلى محاولة التشبث بآخر خيط من الذكريات الإنسانية. ربما تحمل الأغنية معنىً شخصيًا للبطل، وربما تكون مجرد حركة تلقائية بقيت بعد التحول، كدليل على أن جزءًا صغيرًا منه ما زال بشريًا رغم كل شيء.


و لكن!! …

ما تفسير تكرار ظهور شخصيات تحمل نفس شكله الجديد (التماسيح الأخرى)


إن ظهور شخصيات أخرى تحمل نفس صفاته بعد التحول يشير إلى أن البطل ليس الوحيد الذي خضع لهذا “العلاج”. و هذا قد يكون نقدًا مجازيًا للمجتمع الذي يسلب الأفراد تفردهم ويجعلهم متشابهين في برودهم وانعدام حساسيتهم. كما يمكن أن يكون إشارة إلى تزايد عدد الأشخاص الذين يتخلون عن مشاعرهم في سبيل التكيف مع متطلبات الحياة القاسية.


الحبكة: 


الحبكة كلاسيكية، تسير وفق خطٍ دراميٍ بياني ينتقل تصاعديًا إلى الذروة، و لكنه يُبقي على النهاية المفتوحة القابلة لأيّ تأويل ..و وفقًا للأحداث هي  تنتمي إلى الحبكة التحولية (Transformation Plot) حيث يبدأ البطل بشخصية عادية ويتحول تدريجياً إلى شيء آخر، مما يعكس تغييرات عميقة في هويته. الحبكة أيضًا تحمل طابع الخيال الرمزي، حيث يتم استخدام عنصر غير واقعي (التحول إلى تمساح) لتوصيل فكرة فلسفية أو نقدية.


في محاولةٍ من الكاتب أن يعالج موضوع القمع العاطفي بطريقة رمزية، حيث توحي القصّة بأن المجتمع يفرض على أفراده قوالب محددة لا تحتمل الانفعال أو التفرد. العلاج الذي يبدو حلاً هو في الواقع وسيلة لسحق الجانب الإنساني، مما يطرح تساؤلاً: هل نفضل أن نشعر بالألم أم أن نفقد الشعور تمامًا؟


الأسلوب السردي


اجرى الكاتب السرد بأسلوب واقعي-سحري، حيث يتم تقديم أحداث خيالية (تحول البطل إلى تمساح) في سياق يبدو طبيعيًا ومألوفًا. السرد جاء من وجهة نظر البطل، ما جعل القارئ يعيش تحولاته النفسية والجسدية بعمق.


كيف نقل لنا الكاتب البعد النفسي للشخصية؟


لقد جعل الشخصية الرئيسية تعاني من فرط الانفعال، وهي حالة تجعلها حساسة جدًا لكل ما يدور حولها. هذا قد يكون انعكاسًا لشخصية مرهفة في مجتمع لا يتسامح مع المشاعر القوية. بعد التحول، يصبح البطل غير مكترث بأي شيء، وكأن العلاج لم يكن شفاءً بل إعدامًا للذات القديمة.


و هذا بدوره يضعنا أمام مقولة فلسفية، فما هي ؟


القصة تطرح سؤالًا وجوديًا:

هل يمكن للإنسان أن يكون “وظيفيًا” دون مشاعر؟

كما تسلط الضوء على الفكرة القائلة بأن التوازن العاطفي لا يعني قتل العواطف، بل التعايش معها بوعي.


تمتّعت القصّة بكثيرٍ من الإيجابيات التي أهّلتها لنيل الإعجاب، من وجهة نطري الخاصّة 

الرمزية العميقة والمتعددة المستويات.

الأسلوب السردي المشوق والتحول التدريجي.

نقد اجتماعي لاذع دون مباشرة.

النهاية المفتوحة التي تترك المجال للتأويل.

استخدام عنصر الخيال (التحول إلى تمساح) قد يجعل القصة تبدو أقرب للفانتازيا، مما قد يقلل من وقع رسالتها عند بعض القراء.


يُعتبر النص غرائبيًا بامتياز، وذلك لعدة أسباب:


بادئ ذي بدء لنقم بتعريف الأدب الغرائبي وعلاقته بالنص


الأدب الغرائبي (Fantastique) هو ذلك النوع من الأدب الذي يدمج بين الواقع والعناصر غير المنطقية أو الخارقة للطبيعة، مما يخلق شعورًا بالدهشة والارتباك لدى القارئ. يتميز بظهور أحداث غير مألوفة تُعرض بطريقة تجعله يتساءل: هل هذه الأحداث حقيقية ضمن منطق القصة، أم أنها مجرد هلوسة أو رموز؟


النص ينتمي إلى هذا النوع لأن البطل يعيش تجربة غير طبيعية تمامًا، وهي تحوله إلى تمساح بعد تناوله حبة دواء، 

وهذه التحولات البيولوجية لا تخضع لمنطق العلم أو الطبيعة، مما يخلق حالة من الغرابة واللامعقول داخل النص. ولكن الأحداث تُروى بأسلوب يجعله يبدو وكأنه أمر ممكن أو حتى متوقع ضمن منطق السرد.


 و منها أيضًا التعامل الطبيعي مع الحدث غير الطبيعي


إحدى السمات المهمة للأدب الغرائبي هي أن الشخصيات تتعامل مع الظواهر غير المنطقية كما لو كانت أمورًا عادية.

البطل لا يشكك كثيرًا في تحوله، بل يتقبله بسرعة بعد لحظة فزع أولية.

المجتمع يتفاعل مع التغير وكأنه أمر مفهوم، فيتم القبض عليه ووضعه في مستنقع مع “أمثاله”.

وجود آخرين تعرضوا لنفس المصير يوحي بأن الأمر مألوف وليس استثنائيًا تمامًا.


هذا التفاعل الواقعي مع حدث غير واقعي يخلق التوتر الغرائبي في القصة.


ما نلاحظه في النصّ هو عدم وجود تفسير منطقي واضح! و السؤال هل على الكاتب أن يُقدّم تفسيرًا؟ 


في الحقيقة لا يقدّم النص تفسيرًا علميًا لتحول البطل إلى تمساح، ولا يوضح إن كان ذلك بسبب الدواء نفسه أم أنه إيحاء نفسي قوي أدى إلى تغييره.

هل الحبة الخضراء تحتوي على مادة سحرية؟

أم أن البطل عانى من وهم نفسي جعله يصدق أنه تحوّل؟

أم أن المجتمع بأكمله خاضع لقانون غريب يجعل التمسيح نتيجة طبيعية لمن يتناول الدواء؟


هذا الغموض هو أحد ركائز الأدب الغرائبي، حيث يُترك القارئ في حالة من الحيرة بين التفسير الواقعي والتفسير الخيالي.


دعنا نطرح سؤالًا آخر ، هل  يختلف النص عن الفانتازيا أو الرعب؟

ما يسترعي انتباهنا أن النصّ :

ليس فانتازيا بالكامل: فالفانتازيا تُبنى على عالم مختلف بقوانينه الخاصة، أما هنا فالعالم مألوف (مدينة، عمل، شرطي، بقال، مدير…)، لكن ما يحدث للبطل يكسر المنطق الواقعي.

ليس رعبًا تقليديًا: رغم وجود التحوّل المخيف، إلا أن القصة لا تهدف إلى إخافة القارئ، بل إلى إثارة التأمل حول فقدان الإنسان لمشاعره وهويته.


فالتحوّل إلى تمساح قد يكون مجازيًا، لكن تقديمه كحدث “واقعي” داخل السرد يمنح القصة قوة رمزية أكبر. فبدلاً من مجرد نقد مباشر لفكرة قمع المشاعر، يأخذ النص منحى غرائبيًا يجعل القارئ يشعر بنفس الاغتراب الذي يشعر به البطل، وكأن فقدان العواطف هو بالفعل تحوّل وحشي حقيقي.


الرمزية في النصّ


-اللون الأخضر في القصة


اللون الأخضر حاضر بقوة في النص، وله دلالات رمزية متعددة تتغير حسب السياق:


1. الحبة الخضراء: الأمل الزائف والمجهول

اللون الأخضر عادةً يرتبط بالحياة والطبيعة، لكنه هنا لون حبة دواء غامضة، مما يمنحه طابعًا مريبًا.

البطل يتناول الحبة بدافع الأمل في الخلاص من فرط انفعاله، لكنه يواجه نتيجة عكسية تمامًا، مما يجعل اللون رمزًا للخديعة أو الحلول الوهمية.


2. لون الجلد بعد التحوّل: الوحشية واللامبالاة

بعد تناول الدواء، يصبح جلده أخضر كسطح التماسيح، مما يجعله رمزا للحيوانية وفقدان الحساسية العاطفية.

التماسيح معروفة بأنها زواحف باردة الدم، تعيش في المستنقعات، وتبدو بلا مشاعر، وهذا يتوافق مع الحالة التي وصل إليها البطل بعد التحوّل.


رمزية سماكة الجلد

بعد التحوّل، يصبح جلد البطل سميكًا ومتصلبًا، مما يرمز إلى فقدان الحساسية تجاه العالم.

المعنى النفسي: تحوّله إلى تمساح يعكس كيف يصبح الإنسان قاسيًا وغير مبالٍ نتيجة لضغوط الحياة أو التجارب القاسية.

المعنى الاجتماعي: يمكن اعتبار ذلك نقدًا لمنظومة تفرض على الناس أن يكونوا بلا مشاعر حتى ينجوا، سواء في العمل، العلاقات، أو حتى في مواجهة القمع السياسي.


3. المستنقع: العزلة والإقصاء

يمثل "المستنقع " العزلة الاجتماعية التي يفرضها المجتمع على من يفقدون إنسانيتهم. هو مكان خارج حدود “العالم الطبيعي”، حيث يُجمع أولئك الذين لم يعودوا ينتمون للبشر. يمكن أيضًا أن يرمز إلى الهامشية التي يُدفع إليها من يخرجون عن النمط الاجتماعي المرسوم لهم.


الأخضر هنا ليس لون الحياة، بل لون التهميش والنبذ، وكأن من فقدوا مشاعرهم لم يعودوا يستحقون العيش وسط الناس.


سيميائية النهاية 


النهاية تحمل دلالتين:

1. اللاعودة: البطل أصبح الآن جزءًا من مجتمع “التماسيح”، مما يعني أنه فقد أي أمل في استعادة ذاته الأصلية.

2. الاعتياد على الحالة الجديدة: تصفيره للأغنية في النهاية يوحي بأنه بدأ يتكيف مع وضعه الجديد، وكأن فقدانه لمشاعره لم يعد مأساويًا بل أصبح طبيعيًا، وهو ما يعكس فكرة خطيرة عن قدرة الإنسان على التأقلم حتى مع فقدان هويته الأصلية.


تتوافق  القصة مع عدة تيارات أدبية عالمية، منها:


1. الأدب العبثي (Absurdism)

يشبه النص أعمال كافكا، خصوصًا التحوّل (The Metamorphosis) حيث يستيقظ البطل ليجد نفسه حشرة دون أي تفسير منطقي.

هناك عالم مألوف لكنه غير عقلاني، حيث يتم التعامل مع حدث مستحيل وكأنه طبيعي.


2. السخرية السوداء (Black Humor)

يشبه أدب جورج أورويل وكيرت فونيجت، حيث يتم السخرية من المجتمع عبر مواقف غير واقعية لكن تحمل دلالات نقدية قوية.


3. الأدب الديستوبي

القصة تتناول فكرة القمع الاجتماعي والتجارب الطبية المشبوهة، وهو ما نجده في أدب ألدوس هكسلي (عالم جديد شجاع) {يعبر فيها عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس. يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ. في هذا العالم الجديد. عالم العقاقير والآلات. تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال. في هذا العالم الجديد كل شيء آلي }

وراي برادبري (فهرنهايت 451).

هناك نقد لمنظومة تحاول “إصلاح” الإنسان، لكنها تنتهي بتحويله إلى شيء غير بشري..{ تحكي عن قصة نظام شمولي يقوم بغزو العالم في المستقبل ويجعل التلفزيون دعاية سياسية له ويقوم بحرق الكتب على درجة 451 فهرنهايت.بطل الرواية هو رجل الإطفاء «مونتياج» يلتقي صدفة بجارته المثقفة وتدعى كلاريس التي قامت بجذبه وإقناعة بقراءة رواية جميلة فوقع مونتياج في حب التراث الإنساني العريق الذي لم يكن يعلم عنه لولا كلاريس. وبالتدريج تمرد هو أيضا على السلطة.}


الخلاصة

القصة تحمل رسالة قوية حول فقدان الإنسان لمشاعره بفعل العوامل الخارجية، سواء كانت طبية، مجتمعية، أو حتى قسرية. هي قصة فلسفية بامتياز، تستخدم الرمز والتشويق لطرح أسئلة جوهرية حول العاطفة، الهوية، والإنسانية.


 القصة غرائبية لأنها تدمج بين الواقع واللاواقع بطريقة تجعل القارئ مترددًا بين تصديق الحدث كحقيقة داخل القصة أو تأويله كرمز. إنها تقدم عالمًا مألوفًا لكن مع حدث غير مألوف يُعامل وكأنه طبيعي، مما يجعلها نصًا غرائبيًا بامتياز.


القصة تستلهم رموزًا وأفكارًا عالمية، خاصةً من الأدب العبثي والديستوبي، حيث تستخدم اللون الأخضر وسماكة الجلد كرموز للتحوّل إلى كائن بلا إحساس، في نقد ساخر للحلول الزائفة التي تعد الإنسان بالخلاص لكنها تفقده إنسانيته.


Post a Comment

أحدث أقدم