الكاتبة معاني سليمان
الأمطار في الخارج تهطل بغزارة، والهواء البارد يعصف بقوة، والظلام يحل باكرًا في هذا الوقت من السنة، وي! كأنه على موعدٍ مع حادثٍ جلل، و أنا أجلس في غرفتي؛ أواصل رسم لوحتي الجديدة.
كنت أرى دائماً أن الفن رسالة، وهذا ما دفعني أن استخدم فني لمساعدة الناس، اقترح علي صديقي وائل الذي يعمل طبيباً في مشفى للأمراض النفسية؛ أن أساعده في معالجة الضحايا الذين يعيشون هنا، وأنا اشعر بالسعادة لأنني أساعدهم في العثور على أنفسهم وذواتهم الضائعة عن طريق الرسم .
أخبرني وائل أن لديه مهمة لي ، السيدة سميرة تريدني أن أرسم لها لوحة جديدة ،فقبلت دعوتها بكل سرور
السيدة سميرة ..تحب اللوحات التي أرسمها لها كثيراً، لكنها تصر أن أرسمها وهي بعمر العشرين عامًا، رغم أن عمرها قد تجاوز الثمانين ،السيدة سميرة كانت في شبابها ممثلة جميلة مشهورة يتهافت على عروضها الجمهور .
أخبرني وائل أن لا وعي الإنسان عادةً ما يهيئ له الإنكار وسيلةً ناجعةً للهروب من الواقع .
أما السيد إيهاب فيحب أن أرسم له السماء الصافية والطائرات الورقية الملونة ، والأطفال وهم يركضون ويتقافزون حولها فرحين ، هذه اللوحات تبعث في نفسه نوعاً من الراحة عندما يكون مزاجه جيداً ،لكن عندما تداهمه نوبات الهلوسة والتشويش ،يصبح من الصعب السيطرة عليه ،السيد إيهاب كان يعمل طياراً حربياً ،ولايستطيع أن ينسى منظر القرى والمنازل التي تلتهمها النيران ،والناس وهم يفرون مذعورين من الجحيم محاولين النجاة بحياتهم .
أخبرته مرارًا أن عليه أن يتصالح مع ماضيه ويتجاوز صدماته، لكنه لا يستجيب لي!
نفذت مني الألوان، لذا طلبت من صديقي أن يشتري لي المزيد من الأدوات والألوان، لأنني لا أغادر المشفى؛ الجميع يحبونني ويرفضون مغادرتي، وأنا متعلقٌ بهم، وأشعر كأني واحدٌ منهم ..
حياتي تسير هادئة عدا تلك الكوابيس المزعجة التي تهاجمني في الليل ..
يداي ملطختان بالدماء انظر اليهما بفزع ..ثم انتقل ببصري إليها وهي ممدة على الأرض غارقة في دمائها ،تفتح عينيها وتنظر إلي ،تنهض واقفة على قدميها ، من أمامها يتدلى جنينها يجرها بحبله السري ،يسيران باتجاهي ، يصرخان في وجهي ..
" أنت السبب! ..أحاول الهرب فأهوي إلى قاعٍ مظلم، أصرخ وأصرخ ويختنق صوتي . أستيقظ من نومي مفزوعا!
لأجد صديقي وائل بجواري ، يهدأ من روعي ويحاول أن يخفف الأمر علي، ويسقيني بعض المهدئات، وينصحني أن أخرج ما في داخلي عن طريق الرسم .
ذهبت إلى عيادة وائل لأذكره أن يحضر لي الألوان ، لكنه كان قد غادر لحالة مستعجلة، نويت أن أعود أدراجي؛ لولا أنني فوجئت بصورتي موضوعة على ملفٍ مفتوح على سطح مكتبه!
سألت نفسي مندهشًا
- لم يحتفظ بملفٍ لي ؟
تناولت الملف وقرأته ..
عاد الطبيب إلى مكتبه ورآني ممسكاً بالملف ..كانت آثار الصدمة ناضحةً على وجهي، قدماي لا تستطيعان حملي، تشويش، أصوات، صور ..
قلت مغمغمًا
- المرأة التي أراها في أحلامي والجنين هما زوجتي وطفلتي؟!
نظر الطبيب إلي بأسى
- أجل؛ أصيبت زوجتك بنزيفٍ حاد، حاولتَ التدخل لإنقاذها،كونك طبيب جراحة، لكنك فقدتها وفقدت الجنين أثناء العملية الجراحية؛ اعتبرت نفسك مسؤولاً عن وفاتهما، ولم تسامح نفسك..
صمت لحظات استهلكها في قراءة تعابير وجهي، أردف
- لقد بنى عقلك آلية دفاع لحمايتك من مواجهة الألم العاطفي عن طريق الإنكار، وخلق واقع بديل ..عليك أن تتقبل الحقيقة بدلًا من الهروب من مواجهتها .
صداع شديد ينتابني ،أضع يدي على رأسي محاولاً الهروب مما أراه .. لقد تذكرت .. تذكرت كل شيء .
في اليوم التالي وجدوني ممدداً على سريري وبجواري آخر رسمة لي؛ طائرٌ يحلق بجناحيه، ويطير بعيداً نحو الفضاء الرحب !
إرسال تعليق