بقلم د. مجدولين منصور
التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بين سلطة القرار وهُوية الإنسان
في زمنٍ تتسارع فيه العقول الرقمية لتسبق العقول البشرية، نجد أنفسنا نعيش تحوّلًا صامتًا لكن عميقًا، حيث لم تعد القرارات الكبرى تُتّخذ خلف أبواب مغلقة وحدها، بل تتداخل فيها أصوات الخوارزميات، وتحضر فيها لمسة الذكاء الاصطناعي بوصفه شريكًا ـ وربما قائدًا ـ خفيًا.
لقد باتت التكنولوجيا، لا سيما الذكاء الاصطناعي، نافذةً نطلّ منها على عالمٍ جديد، عالمٍ يُغرينا بوعود الدقة والسرعة والتنبؤ، لكنه يزرع في طريقنا تساؤلات وجودية: من يُقرر؟ ومن يُوجّه؟ وهل ما نختاره حقًا هو اختيارنا، أم أنه محض اقتراحٍ ذكي بدا لنا منطقيًا لأن شاشة ما قدّمته لنا بثقة؟
القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي: من الحدس إلى التحليل
لطالما كانت القيادة فعلًا إنسانيًا يعتمد على الرؤية، والحدس، والتجربة. لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، تغيّرت معايير القيادة، إذ أضحت تستند إلى قواعد بيانات لا تنام، وخوارزميات تتعلّم، ونماذج تنبؤية تستشف المستقبل من شظايا الحاضر. لم تعد الخبرة وحدها تكفي، بل بات القائد مطالبًا بفهم التقنيات الجديدة، والتفاعل معها، وربما ـ في بعض الأحيان ـ الخضوع لها.
تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم في دعم اتخاذ القرار، من خلال تحليل سيناريوهات معقدة، والتنبؤ بالنتائج، وتقديم التوصيات. ورغم الفوائد الجليّة لهذا التطور، إلا أن الخطورة تكمن في الاعتماد المُطلق، وفي إحالة الحكم إلى "عقل" لا يشعر، ولا يعرف الرحمة، ولا يُدرِك السياق الإنساني كما ينبغي.
عندما يتحكم الذكاء الاصطناعي في خياراتنا
من خلال أنظمة التوصية، والإعلانات الموجّهة، والمحتوى المُفصَّل بدقة، بدأت التكنولوجيا في التأثير على اختياراتنا الصغيرة واليومية: ما نشتري، ماذا نقرأ، من نصادق، وما الذي نؤمن به. ومع الوقت، تغلغلت هذه التأثيرات حتى أصبحت توجه قرارات أكبر: هل نستثمر في هذا المشروع؟ هل نوظف هذا الشخص؟ هل نمنح هذا الطالب فرصة ثانية؟
هذه الأنظمة قد تُفضي بنا إلى قرارات نعتقد أننا اتخذناها بحرّية، بينما كانت في الواقع ثمرة توجيه ذكي ومدروس. إنها لا تسرق حريتنا، لكنها تعيد تشكيلها بصمت.
في ساحة القضاء والتعليم: حضور الذكاء الاصطناعي
ليست المؤسسات القضائية والتعليمية بمنأى عن هذا التأثير. في بعض البلدان، بدأت الأنظمة القضائية تستخدم خوارزميات لتقييم المخاطر وتوجيه الأحكام، مما يثير قلقًا أخلاقيًا عميقًا: هل يمكن لقاضٍ آلي أن يُدرك تعقيد العدالة؟ وهل يجوز ترك مصير الأفراد لحسابات لا تفهم التوبة ولا الحزن ولا الندم؟
وفي ميادين التعليم، ظهرت أنظمة ذكية تُحلل أداء الطلبة، وتقترح استراتيجيات تعلم فردية، وتُقيم المعلمين، بل وقد تمتد لتشارك في صنع القرارات التربوية الكبرى. وهنا يُطرح السؤال: من يقود عملية التعلم؟ الإنسان أم التقنية؟
خاتمة: قيادة من نوعٍ جديد
لسنا أمام مواجهة بين الإنسان والآلة، بل أمام لحظة فاصلة تُحتم علينا إعادة تعريف القيادة، وإعادة بناء معايير الحكم، وصياغة أخلاقيات تواكب هذا العصر الرقمي المتسارع. يجب أن تكون التكنولوجيا أداةً للتمكين لا للاستلاب، ووسيلة تعزز من قدراتنا دون أن تُصادر قراراتنا.
القيادة في هذا الزمن لا تعني فقط توجيه الآخرين، بل تعني أيضًا القدرة على مقاومة الانقياد الأعمى وراء الذكاء الاصطناعي، وعلى الاحتفاظ بالعنصر الأثمن فينا: إنسانيتنا.
إرسال تعليق