بقلم يوسف اليامي
في زمنٍ تتكسر فيه الحدود، وتتداخل الأصوات والصور والثقافات عبر شاشة واحدة، تُطرح الأسئلة القديمة من جديد، لكن بصيغ أكثر حِدّة: من نحن؟ ما الذي يُشكّل هويتنا؟ وهل نحن كما نحن، أم أننا انعكاس لما يُفرض علينا رؤيته واستهلاكه والانتماء إليه؟
العولمة ليست مجرد اقتصاد مشترك أو ثقافة استهلاكية تنتشر بمنتجاتها ومطاعمها وسينماها، بل هي حالة نفسية، وعقلية جمعية، تخلق وعياً جديداً بالعالم… لكنها أيضًا تُهدد بتآكل الخصوصيات، وتُحوّل التنوع إلى نسخة واحدة مكررة، ناعمة وسطحية وسهلة الهضم.
نعم، في زمن العولمة، لا شيء يبقى بعيدًا، ولا أحد يبقى كما كان.
الهوية الثقافية، التي كانت يومًا ما ترتكز على اللغة، والعادات، والذاكرة الجمعية، والأرض، والقصص التي تُروى شفويًا، أصبحت اليوم موضع تفاوض دائم. لم تعد مسألة مفروغًا منها، بل تحديًا يوميًا. الفرد المعاصر يتلقى من ثقافات متعددة، يلبس قميصًا أمريكيًا، يستمع لموسيقى كورية، يقرأ رواية مترجمة من اليابانية، لكنه يتحدث بلهجته الأم، ويشرب قهوته الصباحية كما علّمته جدته. إنه كائن هجين، جميل في تعدّده، لكنه مرتبك في جذوره.
وهنا تحديدًا تكمن الإشكالية: هل الذوبان في الثقافات الأخرى يُفقدنا ذاتنا؟ أم أنه يُعيد تشكيلها بصورة جديدة أكثر مرونة؟ وهل بإمكاننا الحفاظ على هويتنا دون أن ننغلق؟ وهل التجدد بالضرورة يعني الخيانة للتراث، أم أنه امتداد طبيعي له؟
الهوية ليست جامدة، هذا صحيح. هي كائن حي يتنفس، يتغير، ينضج، وربما يمرض أحيانًا. لكنها حين تُجبر على التبدّل تحت ضغط الاستهلاك، وتفقد ذاتها لتُصبح جزءًا من ماكينة الإنتاج الثقافي العالمي، تصبح مجرد "صورة" للهوية، لا جوهرها. والمشكلة ليست في التفاعل، بل في الانبهار المُطلق، في الذوبان الكامل الذي لا يترك مساحة للسؤال: من أنا، حقًا، وسط كل هذا؟
ومع ذلك، لا يمكننا أن نرفض العولمة بالكامل. فهي تفتح أبوابًا جديدة للفكر والتعبير والربط بين الشعوب. ولكن علينا أن نعيد تعريف أنفسنا لا في مواجهتها، بل في داخلها. أن نُمارس فعل "الاختيار" الثقافي، لا الاستسلام. أن نحمل تراثنا لا كحِمل، بل كمنارة نُضيء بها طريقنا وسط عالم يتغير كل لحظة.
إن الهوية، في جوهرها، ليست أن تبقى كما كنت، بل أن تعرف من أنت حين تتغير الظروف. أن تملك القدرة على أن تكون "أصليًا" حتى وأنت ترتدي زيًا عصريًا، أن تحكي حكايتك بلغة يفهمها الآخر، دون أن تُفرّط في نكهتها.
الهوية الثقافية في زمن العولمة لا يجب أن تُفهم كصراع بين قديم وجديد، بين نحن وهم، بل كمساحة مشتركة لصياغة إنسان معاصر، متصل بجذوره، لكنه أيضًا متفتح على العالم. كل ثقافة تتفاعل مع الأخرى، لا لتذوب فيها، بل لتُعيد اكتشاف نفسها من خلالها.
نحن لا نخسر هويتنا لأننا نعيش في عالم مفتوح، بل لأننا ننسى أن نحميها من الداخل. من الذاكرة، من اللغة، من القصص التي نرويها لأطفالنا، من التفاصيل الصغيرة التي نعيشها يوميًا دون أن نمنحها قيمة.
وفي النهاية، تظل الهوية رحلة… لا وجهة نهائية. رحلة بحث دائم عن التوازن بين الأصالة والانفتاح، بين التمسك والتجدد، بين الجذور والأجنحة.
إرسال تعليق