العلاقات في العصر الرقمي: هل تغيّر معنى الحب؟



بقلم يوسف اليامي

في زمنٍ تتسارع فيه النبضات لا بفعل المشاعر، بل بفعل الإشعارات... وفي عالمٍ أصبحت فيه المسافات تُختصر بلمسة شاشة، يبرز سؤال عميق، ملحّ، يكاد يكون وجودياً: هل تغيّر معنى الحب؟ هل ما زال الحب هو ذاك الشعور الدافئ الذي يتسلل إلى الأرواح دون استئذان، أم أصبح مجرّد إشعار يُفتح، ويُغلق، ويُنسى؟


كنا نكتب الرسائل بأيدينا، نحفظها في قلوبنا قبل صناديق البريد. كنا ننتظر ردّاً لأيام، وربما أسابيع، لكننا كنا ننتظر بشغف، بنبض حقيقي. أما اليوم، فنكتب عشرات الرسائل في اليوم الواحد، نمسحها، نعيد صياغتها، نرسلها، ولا نجد لردّها أثراً في مشاعرنا. تلاشت حرارة الكلمات، وصارت الوجوه تُستبدل بوجوه، والقلوب تُقلّب كما نُقلّب صفحات التطبيقات.


لم يعُد الحب كما عرفناه. لم يعد لقاء صدفة يقلب الموازين، أو نظرة تمتدّ بين اثنين فتغير مجرى العمر. صار الحب صورة معدّلة بالفلاتر، ومحادثة تبدأ "بهاي" وتنتهي بلا وداع. صرنا نخشى الصمت في المحادثة، لا لأننا فقدنا الاهتمام، بل لأن "العلامة الزرقاء" صارت هي التي تُقرر من يحب ومن لا يحب.


لكن... هل المشكلة في التكنولوجيا؟ أم فينا نحن؟

الحب لم يتغيّر، لكن نحن من تغيّرنا. نحن من سمحنا للسرعة أن تسرق منا لحظة الترقّب. نحن من استبدلنا اللقاء الحقيقي بالمكالمات المصوّرة، واستبدلنا دفء اللمسة بـ"الإيموجي"، والاشتياق الحقيقي بـ"ستوري" سريع يختفي خلال ثوانٍ.


لقد أصبحنا نبحث عن الحب كما نبحث عن محتوى ترفيهي: سريع، خفيف، دون التزامات. نتهرّب من العمق، لأن العمق يتطلب وقتًا، صبرًا، تفرغًا... ونحن في عصر لا يحتمل التريّث. نريد حباً لا يوجع، لا يعاتب، لا ينتظر. حباً يُفصَّل على مقاس راحتنا النفسية، لا على مقاس الحقيقية الإنسانية.


ومع ذلك...

رغم كل هذا الضجيج، ما زال هناك من يحب بصمت. من يكتب الرسائل ولا يرسلها. من يحتفظ بصورة قديمة لا يشاركها، فقط لأنها تحكي قصة حب لا تُروى للعامة. ما زال هناك من يشتاق، من يخاف الفقد، من يُجرّب أن يحبّ في عالم بارد دون أن يتحوّل هو نفسه إلى قطعة ثلج.


ربما تغيرت الوسائل، لكن جوهر الحب... لا يُمس.

فالحب الحقيقي لا يحتاج شبكة واي فاي، ولا حساب إنستغرام. الحب يحتاج قلبًا حيًا، قادرًا على الاحتفاظ بالآخر، لا على شكل رقم، أو "كونتاكت"، بل كظلّ لا يغادر الروح.



Post a Comment

أحدث أقدم