الجانب الأيسر والذّاكرة (سُلطة الذّاكرة)

 


أسماء المصفار/ تونس-صفاقس

ترتبطٌ الجهة اليُسرى من المُخ بإحدى أهمّ المَلَكات الذّهنيّة التي تُؤدّي إلى انبعاث حالات نفسيّة مُختلفة في الذات الإنسانيّة، بالذّاكرة التي تندرج ضمن الفصّ الصّدغي للمُخ. لتُقابلَها في الجهة اليُمنى مَلَكة الذّكاء التي توجد في الفصّ الأماميّ منه (المُخ) وهو الجُزء المسؤول عن استشعار العاطفة وتوجيه السّلوك والإحساس بالأشياء. وإنّ ما دفَعَنا إلى تمثيل هذه الأبعاد الدّلاليّة هو علاقة الذات الإنسانيّة بثُنائيّة التّذكُّر والنسيان. فبعضُنا يسعى إلى نسيان أشياء مُعيَّنة مثل شخص أحبَّه وأَلفَ وجودَه، أو مكان كانت له فيه ذكريات جميلة، أو زمان مُقترن بأحداث أو مُناسبات مُعيَّنة، لكن دون جدوى قد تجدُ الذات نفسَها في هذه الحال محكومة بعمليّة عكسيّة مُتمثّلة في تحصيل درجة كبيرة من درجات التّذكُّر عوَض الظّفر بالنسيان. ولعلّ ارتباط علاقة الذات الإنسانيّة بظاهرتَي التّذكّر والنسيان جعلها تلتفُّ حول مجموعة من الحالات ذات البُعد التّناقُضيّ مثل الحضور والغياب والحياة والموت والألم واللّذّة والأمل واليأس والوصل والهجر. 

ففراق الحبيب مثَلا عن محبوبه قد يُنشئُ في نفسه رغبة جامحة في نسيانه وإنكار كلّ ما كان يصلُه به من مشاعر وأشخاص وأمكنة ولحظات مُتعلّقة بالزّمن، إلّا أنّ عدم تمكُّن الحبيب من نسيان محبوبه رغم مُحاولاته وسعيه إلى ذلك بطُرُق عديدة يعودُ إلى درجة الحُبّ الكُبرى التي كانت تحملُها الذات المُحبّة نحو الذات المحبوبة، كما يعود أيضا إلى انبجاس الرغبة القويّة في النسيان لديها (الذات المُحبّ). لأنّ عمليّة النسيان تستدعي تلقائيّا عناصر التّذكُّر التي تسعى الذات إلى نسيانها. وإنّ الحديث عن علاقة عاطفيّة بدأت آفاق الفراق وعلامات الهجر تَلُوح فيها ستكُون لا محالة مُمازجة بين عمليَّتَي التّذكّر والنسيان. لتتحدَّدَ في هذه الحال الفروقات بين الذات المُحبَّة والذات المحبوبة في علاقتهما بالتّذكّر والنسيان، كون أنّ الذات المُحبّة ستسعى إلى تذكُّر الأوقات السّعيدة التي كانت تجمعها بالذات المحبوبة لتعميق هُوّة التّذكّر لديها أكثر وبهذا يظهر الجانب المُؤلم الذي تُمثّله عمليّة التّذكّر في هذه الحال. إلّا أنّها في حال الرّغبة في النسيان ستعملُ على مُكابدة كلّ ما يُذكّرها باللّحظات السّعيدة التي عاشتها في زمن الماضي رفقة الذات المحبوبة، وذلك عن طريق سعي الذات المُحبَّة إلى استشعار صُورة للحبيب مُوغلة في القُبح والأنانيّة، وذلك ما سيبعثُ فيها شُعورا بالنُّفور والكُره وإنكار مشاعر الحُبّ الكائنة في زمن الماضي. إلّا أنّ الذات المُحبَّة رغم ذلك، فإنّها قد لا تنجح في عمليّة التّصدّي للذّاكرة ولعمليّة التّذكُّر رغم قسوة المحبوب وجفائه وغطرسته، ولتكُونَ عمليّة النسيان بالنّسبة إلى الذات المُحبَّة بمثابة الظّاهرة الخياليّة التي لا تصلُ الحقيقة والواقع بشيء، ولتغدُوَ في هذه الحال الرّغبة في النسيان بمثابة اللُّعبة التي تتسبُّبُ للمُقبل عليها في الكَدَر والألم والمُعاناة، لذلك فإنّ الذّاكرة تستحيلُ في هذا الموضع ذاكرة الكفاح الصّادق الذي فيه يقين بانتهاء زمن الذّكريات السّعيدة التي ستبقى الذات المُحبَّة وفيّة لها ولن تتمكّن إغراءات الحياة من مَحوها من عقلها ولن يضطلع الزّمن بلفّها بالنسيان أو تشويهها وهُنا تظهر سُلطة الذّاكرة وفاعليّتها في تأجيج العواطف الإنسانيّة

Post a Comment

أحدث أقدم